اقتصاد الحرب.. مهن طارئة وأفضل استثمارات بالأزمة
الأزمنة
السبت، ٩ أبريل ٢٠١٦
الأزمنة – مجد سليم عبيسي
يقول المفكر الكندي "فيليب لو بيون" معرفاً اقتصاد الحرب بأنه نظام إنتاجي تعبوي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية لضمان استمرارية حالة العنف. وهذا غيض من فيض هذا الوليد "اقتصاد الحرب" المرعب الذي يمكن أن نشمله بتعريف أكثر شمولية من واقع الأزمة على أنه التحايل على الاقتصاد النظامي وتدميره، ونمو الأسواق غير النظامية والسوداء، وسيادة السلب، والابتزاز المتعمد ضد المدنيين، والعنف لاكتساب السيطرة على الأصول المربحة، واستغلال اليد العاملة. كما أنه اقتصاد يتسم باللامركزية، ويزدهر فيه الاعتماد على التهريب، واستغلال الأقليات من السكان.
كيف تقبّـل العامة الاقتصاد الجديد ؟!
بدايةً سنقف على الطريق الشائك لاقتصاد الحرب، وننظر نظرة موازية للطريق الذي خطته الأزمة لنميز الانحرافات التي حادت به عن الاقتصاد النظامي المدمر والذي لا وعود حكومة ولا بيارق أمل ترفرف لهبوب رياح عودته.
صنف تقرير الأونروا 82٪ من الشعب السوري في فئة الفقراء، وقال إن 2.96 مليون شخص فقدوا أعمالهم بسبب الحرب، كما ارتفعت البطالة إلى نسبة 57٪.. وهذا تصنيف قديم ينمو مع نمو الأزمة.
ولكي نوضح الضرر الاقتصادي الأكبر على عموم السوريين، فإن الحديث عن الزراعة يفرض نفسه كون الزراعة كانت تشكل 27% من الناتج المحلي.
قبل اندلاع الأزمة، كانت نسبة 46٪ من السوريين يعيشون في الأرياف، وهي أعلى نسبة على مستوى الشرق الأوسط، وكان يعمل في الزراعة نحو 15٪ من العاملين.
ومع بدايات الأزمة بلغت خسائر الزراعة عدة مليارات من الدولارات، و60٪ من الأسر الريفية هجرت من منازلها، و80% من الأسر في الريف السوري تعيش على الاقتراض من الأقارب لتتمكن من سد الرمق بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية إلى أكثر من 700%.
كيف لجأ السوريون إلى اقتصاد ظل ؟!
كان من حصيلة هذه الآثار القاسية على السوريين -وكما هي الحال في اقتصاديات الحروب- أن توجهت الأغلبية السورية إلى الاقتصاد غير النظامي، إذ إن 80٪ من الذين بقوا في سورية باتوا بحاجة إلى المساعدة مع استفحال الغلاء والتضخم والبطالة والنزوح.. أصبح عبء تكاليف المعيشة ثقيلاً على السوريين. وقد تزامن ذلك مع ارتفاع كبير في الأسعار حتى من قبل المؤسسات الحكومية أو التي تديرها، فقد ارتفعت أسعار الأسمدة والأدوية والاتصالات والوقود بنسبة فاقت 300٪. في الوقت نفسه انتشرت عمليات غش في نوعية السلع بشكل لم يسبق له مثل مع ضعف الرقابة.
ومع محاولات الحكومة فرض الرقابة الصارمة، صدر المرسوم التشريعي الرقم 27 للعام 2013 القاضي بتعديل مواد من قانون حماية المستهلك، لأول مرة في سورية، والذي نص على نشر قوائم سوداء بأسماء الماركات والتجار المخالفين للمواصفات والأسعار.
وقد وصلت حالات غش المنتجات إلى الأدوية، إذ حذرت الصحة في بواكير العام الماضي من انتشار أدوية منتهية الصلاحية ومزورة في الأسواق السورية. وحاولت السلطات الرسمية –عبثاً- فرض السيطرة الكافية على الأسواق، إلى درجة أنها دعت عموم الشعب إلى تشكيل لجان شعبية لفرض الرقابة على الأسواق والأفران، ومنع تهريب الطحين والسلع.
في ظل هذا العجز الحكومي عن الرقابة أو إيجاد الحلول المطلوبة، لجأ الناس إلى المبدأ المعروف سورياً بـ "دبر راسك" وفي ما يلي نستعرض بعض الإجراءات التي اتبعها عموم الناس للتعامل مع اقتصاد الحرب، عبر إجراءات فرضتها الضرورة.
سوري.. "دبر راسك"
في تصريح لا يخلو من التنظير دعا رئيس اتحاد غرف التجارة السورية غسان القلاع في بدايات العجز الحكومي عن ضبط الأسواق وعدم استعداد التجار والصناعيين للتنازل عن أسعارهم التي أحرقت الأسواق؛ دعا المواطنين أمام الصحافة إلى ضرورة تغيير العادات الاستهلاكية وترشيد الاستهلاك والابتعاد عن مفهوم التخزين، ضمن حدود الحاجة فقط.
وهكذا لجأ السوريون إلى تدبير شؤون حياتهم بطرق إبداعية، بدأت بتغيير العادات الاستهلاكية ولكن بمفهومهم الخاص وصولاً إلى بدائل بعضها قانوني وآخر مخالف للقانون.
حين اختفت كثير من الحاجات الضرورية من موائد السوريين، وبات تناولها شهرياً أو موسمياً. دفع الغلاء الفاحش كثيراً من السوريين إلى استبدال اللحم والدجاج بمكعبات ماجي والسمنة بالزيت. والإقبال ازداد على الصيادلة لشراء الفيتامينات من قبل السوريين لتعويض نقص التغذية، وقدرت مصادر استقصائية أن تكلفة طبق السلطة أصبحت أغلى من كيلو دجاج، وأن السوريين مهددون بالعزوف عن الخضار بعد اللحوم.
ومما ابتكره السوريون لمواجهة هذه الحالة، توجه كثيرون -حتى في المدن- إلى زراعة الخضار على أسطح المنازل وتربية الدواجن في حدائق البيوت.
كما لجأ السوريون بعد ارتفاع أسعار التبغ الذي تحدده الحكومة، إلى العودة إلى تدخين "دخان اللف" وهو التبغ غير المعبأ، كملاذ جديد للمدخنين أقل تكلفة.
ولنقص الغاز المنزلي الذي يستعمله السوريون في الطبخ، كان الحل بالعودة إلى الطبخ على نار الحطب، واستطاع بعضهم كما في السويداء وريف طرطوس توليد الغاز من روث البقر عبر تقنيات هندسية بدائية. وسائل إعلام محلية نقلت قصة مزارع في طرطوس أنشأ مشروعاً ينتج الغاز المنزلي له ولجيرانه.
وتفادياً لزحمة الطرقات وأسعار المواصلات المرتفعة لجأ السوريون إلى السير على الأقدام واستخدام الدراجات الهوائية، كما استعاضوا عن انقطاع الاتصالات بين المحافظات، والتي حالت من دون التواصل بين الأقارب، بالعودة إلى أيام الرسائل الورقية آلتي ترسل مع سائقي الشاحنات.
المحافظات الأخرى
المحافظات التي غابت فيها سلطة الحكومة كلياً أو جزئياً مثل الرقة وحلب ودير الزور، ظهرت اقتصادات الحرب بشكل أكثر وضوحاً بالاعتماد على اقتصادات غير شرعية. ورصدت دراسات غير رسمية ظهور اقتصادات العنف في تلك المناطق، تجلت في العديد من الظواهر، كممارسة القتل أو الإهانة أو الإيذاء، وظواهر الاتجار بالإنسان والأعضاء وتوسع الاتجار بالسلاح والمخدرات والخطف لقاء فدية والبلطجة والسلب بالقوة.
في المناطق الشرقية ظهرت اقتصادات تعتمد على الاستيلاء على آبار النفط وتكريرها محلياً وبيعها..
كما ظهرت مهن تعتمد الاحتيال لكسب النقود كالنصب والثبوتيات المزورة والبطاقات المضروبة.
ولعل أقل المهن المنتشرة اليوم وطأة هي مهنة "الدورحي" –كما يسمونها في حلب- حيث يقوم بها مواطنون يحجزون أدواراً في الطوابير أمام الأفران ومحطات الوقود بهدف بيعها للمضطرين بضعفين أو ثلاثة.
أفضل استثمارات الأزمة.. دولار وذهب:
نأتي على المواطن الذي يمتلك مخزوناً نقدياً معيناً، ما أفضل الحلول للاحتفاظ بالمال؟!
كجواب أولي على هذا السؤال لأي سوري يقول: "حولهم دولار أو اشتري ذهب".
هذان الجوابان هما السليقة السورية اليوم.. لماذا؟
سعر السبيكة الذهبية ارتفع مؤخراً من 450 ألف ليرة إلى أكثر من ستمئة ألف ليرة سورية، وذلك في أيام قليلة..
الليرة السورية تفقد قيمتها الشرائية وسعر صرف الدولار يرتقي إلى حدود قصوى وسيلامس الـ 500 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد!
إذاً بغض النظر عن المضاربة بالدولار وما تحمله من إضعاف للاقتصاد الوطني، باتت أكبر هموم السوري اليوم هي المحافظة على ما في جيبه من قيمة شرائية والقدرة على المعيشة ومواكبة الغلاء والتلاعب عليه.
تجارب من العامة:
هم ليسوا بأمراء حرب، ولا بتجار أزمات أباً عن جد، ولم يفكروا باللعب على صيغة "تجار حروب" للاغتناء منها، ولكن للقصة –كما رأيتم- بداية.. هم موظفون وربات بيوت وطلاب جامعيون حولتهم الأزمة إلى...
السيدة هادية ربة منزل خمسينية، تقول إن أفضل الاستثمارات اليوم هو استثمار المال في الذهب لأنه رابح بالمطلق.
تقول: خلال عام استثمرت مبلغ مليوني ليرة سورية بشراء الذهب، وحتى اليوم حققت أرباحاً قاربت 350 ألف ليرة سورية. وذلك بعد خصم أجرة التشغيل عن كل غرام ذهبي..
طبعاً أنا أتحرى شراء الليرات الذهبية والأونصات والسبائك لأنها ذات أجرة شغل أقل ويمكن أن تحقق أرباحاً أسرع. فهي أضمن من أي تجارة وأجمل.
السيد أبو نضال موظف في الاتصالات يقول: إن الاستثمار في الذهب يخسر أجرة التشغيل، فهو ليس برابح إلا على المدى البعيد، ولكن الربح المضمون والسريع وأفضل استثمار للمال اليوم لمن ليس لديهم وقت لعمل إضافي هو المضاربة بالدولار، فهو المربح السهل من دون عناء العمل.
يمكنكم كصحافة اقتصاد أن تراجعوا الرهانات الخاسرة على رفع قيمة الليرة السورية منذ سنوات عدة. فمن 100 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد عام 2011 إلى 200 عام 2012 إلى حدود 500 ليرة –كما أتوقع- في منتصف 2016.
فكل عام الدولار يزيد والليرة تنقص، فبرأيي أن أفضل استثمار هو في الدولار. وأنا بالواقع أستثمر اليوم أكثر من 8 ملايين ليرة سورية بالدولار ولم يكونوا بالواقع سوى مليون واحد منذ سنوات!!.
نور الدين، شاب عشريني يعمل سائق سيارة أجرة يقول: إن أسعار جميع السلع تزيد بشكل يومي.. بل ساعي، وإن أسوأ ما يمكن للمرء أن يفعله هو أن يحتفظ بمال جامد، لأن قيمته تنخفض كل ساعة..
أنا أدخر معظم ما أجنيه من عملي على سيارة الأجرة لأشتري به مواد تموينية وأخبئها، كالسكر والرز والزيت.. أخبئها ضمن غرفة في منزلي وأنتظر قرابة أسبوع أو اثنين وأطرحها مجدداً في السوق في بسطة أو بالاتفاق مع تجار مفرق لأجني الأرباح سريعاً.
إن اشتريت بضاعة بمئة ألف مثلاً أربح فيها بعد أسبوع ثلاثين ألفاً من دون عناء أو تعب.. وهي أفضل من عمل التاكسي، ولكن "كله بيسند بعضه".. فالأسعار كما ترى نار مشتعلة ويجب أن تؤمن لقمة العيش.
تعقيب :
إن كل من تحدث من المواطنين وكل من المسؤولين وكل من التجار الكبار "حيتان السوق" ومن هم أمراء الحرب، وحتى أنا، لا ندرك حجم الفتحات التي نحدثها في مركب الوطن الذي يغرق بنا؛ مات من مات وبقي من بقي منا متعلق بطوق نجاة أو يقف على ساري يظن أنه الناجي الأوحد، لن نطيل عليه الأماني بإخباره أن المركب حين يغرق في أعماق الفوضى والجوع والطبقية فسيسحب كل من خصف من ألواحه ليصنع منها طوفه الخاص، ولن نتجاوز الحدود إن حذرنا من المدعين الداعمين لشبكات كاملة من الفساد ولدت منذ أمد ليس ببعيد.. هاهنا.
يقول المفكر الكندي "فيليب لو بيون" معرفاً اقتصاد الحرب بأنه نظام إنتاجي تعبوي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية لضمان استمرارية حالة العنف. وهذا غيض من فيض هذا الوليد "اقتصاد الحرب" المرعب الذي يمكن أن نشمله بتعريف أكثر شمولية من واقع الأزمة على أنه التحايل على الاقتصاد النظامي وتدميره، ونمو الأسواق غير النظامية والسوداء، وسيادة السلب، والابتزاز المتعمد ضد المدنيين، والعنف لاكتساب السيطرة على الأصول المربحة، واستغلال اليد العاملة. كما أنه اقتصاد يتسم باللامركزية، ويزدهر فيه الاعتماد على التهريب، واستغلال الأقليات من السكان.
كيف تقبّـل العامة الاقتصاد الجديد ؟!
بدايةً سنقف على الطريق الشائك لاقتصاد الحرب، وننظر نظرة موازية للطريق الذي خطته الأزمة لنميز الانحرافات التي حادت به عن الاقتصاد النظامي المدمر والذي لا وعود حكومة ولا بيارق أمل ترفرف لهبوب رياح عودته.
صنف تقرير الأونروا 82٪ من الشعب السوري في فئة الفقراء، وقال إن 2.96 مليون شخص فقدوا أعمالهم بسبب الحرب، كما ارتفعت البطالة إلى نسبة 57٪.. وهذا تصنيف قديم ينمو مع نمو الأزمة.
ولكي نوضح الضرر الاقتصادي الأكبر على عموم السوريين، فإن الحديث عن الزراعة يفرض نفسه كون الزراعة كانت تشكل 27% من الناتج المحلي.
قبل اندلاع الأزمة، كانت نسبة 46٪ من السوريين يعيشون في الأرياف، وهي أعلى نسبة على مستوى الشرق الأوسط، وكان يعمل في الزراعة نحو 15٪ من العاملين.
ومع بدايات الأزمة بلغت خسائر الزراعة عدة مليارات من الدولارات، و60٪ من الأسر الريفية هجرت من منازلها، و80% من الأسر في الريف السوري تعيش على الاقتراض من الأقارب لتتمكن من سد الرمق بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية إلى أكثر من 700%.
كيف لجأ السوريون إلى اقتصاد ظل ؟!
كان من حصيلة هذه الآثار القاسية على السوريين -وكما هي الحال في اقتصاديات الحروب- أن توجهت الأغلبية السورية إلى الاقتصاد غير النظامي، إذ إن 80٪ من الذين بقوا في سورية باتوا بحاجة إلى المساعدة مع استفحال الغلاء والتضخم والبطالة والنزوح.. أصبح عبء تكاليف المعيشة ثقيلاً على السوريين. وقد تزامن ذلك مع ارتفاع كبير في الأسعار حتى من قبل المؤسسات الحكومية أو التي تديرها، فقد ارتفعت أسعار الأسمدة والأدوية والاتصالات والوقود بنسبة فاقت 300٪. في الوقت نفسه انتشرت عمليات غش في نوعية السلع بشكل لم يسبق له مثل مع ضعف الرقابة.
ومع محاولات الحكومة فرض الرقابة الصارمة، صدر المرسوم التشريعي الرقم 27 للعام 2013 القاضي بتعديل مواد من قانون حماية المستهلك، لأول مرة في سورية، والذي نص على نشر قوائم سوداء بأسماء الماركات والتجار المخالفين للمواصفات والأسعار.
وقد وصلت حالات غش المنتجات إلى الأدوية، إذ حذرت الصحة في بواكير العام الماضي من انتشار أدوية منتهية الصلاحية ومزورة في الأسواق السورية. وحاولت السلطات الرسمية –عبثاً- فرض السيطرة الكافية على الأسواق، إلى درجة أنها دعت عموم الشعب إلى تشكيل لجان شعبية لفرض الرقابة على الأسواق والأفران، ومنع تهريب الطحين والسلع.
في ظل هذا العجز الحكومي عن الرقابة أو إيجاد الحلول المطلوبة، لجأ الناس إلى المبدأ المعروف سورياً بـ "دبر راسك" وفي ما يلي نستعرض بعض الإجراءات التي اتبعها عموم الناس للتعامل مع اقتصاد الحرب، عبر إجراءات فرضتها الضرورة.
سوري.. "دبر راسك"
في تصريح لا يخلو من التنظير دعا رئيس اتحاد غرف التجارة السورية غسان القلاع في بدايات العجز الحكومي عن ضبط الأسواق وعدم استعداد التجار والصناعيين للتنازل عن أسعارهم التي أحرقت الأسواق؛ دعا المواطنين أمام الصحافة إلى ضرورة تغيير العادات الاستهلاكية وترشيد الاستهلاك والابتعاد عن مفهوم التخزين، ضمن حدود الحاجة فقط.
وهكذا لجأ السوريون إلى تدبير شؤون حياتهم بطرق إبداعية، بدأت بتغيير العادات الاستهلاكية ولكن بمفهومهم الخاص وصولاً إلى بدائل بعضها قانوني وآخر مخالف للقانون.
حين اختفت كثير من الحاجات الضرورية من موائد السوريين، وبات تناولها شهرياً أو موسمياً. دفع الغلاء الفاحش كثيراً من السوريين إلى استبدال اللحم والدجاج بمكعبات ماجي والسمنة بالزيت. والإقبال ازداد على الصيادلة لشراء الفيتامينات من قبل السوريين لتعويض نقص التغذية، وقدرت مصادر استقصائية أن تكلفة طبق السلطة أصبحت أغلى من كيلو دجاج، وأن السوريين مهددون بالعزوف عن الخضار بعد اللحوم.
ومما ابتكره السوريون لمواجهة هذه الحالة، توجه كثيرون -حتى في المدن- إلى زراعة الخضار على أسطح المنازل وتربية الدواجن في حدائق البيوت.
كما لجأ السوريون بعد ارتفاع أسعار التبغ الذي تحدده الحكومة، إلى العودة إلى تدخين "دخان اللف" وهو التبغ غير المعبأ، كملاذ جديد للمدخنين أقل تكلفة.
ولنقص الغاز المنزلي الذي يستعمله السوريون في الطبخ، كان الحل بالعودة إلى الطبخ على نار الحطب، واستطاع بعضهم كما في السويداء وريف طرطوس توليد الغاز من روث البقر عبر تقنيات هندسية بدائية. وسائل إعلام محلية نقلت قصة مزارع في طرطوس أنشأ مشروعاً ينتج الغاز المنزلي له ولجيرانه.
وتفادياً لزحمة الطرقات وأسعار المواصلات المرتفعة لجأ السوريون إلى السير على الأقدام واستخدام الدراجات الهوائية، كما استعاضوا عن انقطاع الاتصالات بين المحافظات، والتي حالت من دون التواصل بين الأقارب، بالعودة إلى أيام الرسائل الورقية آلتي ترسل مع سائقي الشاحنات.
المحافظات الأخرى
المحافظات التي غابت فيها سلطة الحكومة كلياً أو جزئياً مثل الرقة وحلب ودير الزور، ظهرت اقتصادات الحرب بشكل أكثر وضوحاً بالاعتماد على اقتصادات غير شرعية. ورصدت دراسات غير رسمية ظهور اقتصادات العنف في تلك المناطق، تجلت في العديد من الظواهر، كممارسة القتل أو الإهانة أو الإيذاء، وظواهر الاتجار بالإنسان والأعضاء وتوسع الاتجار بالسلاح والمخدرات والخطف لقاء فدية والبلطجة والسلب بالقوة.
في المناطق الشرقية ظهرت اقتصادات تعتمد على الاستيلاء على آبار النفط وتكريرها محلياً وبيعها..
كما ظهرت مهن تعتمد الاحتيال لكسب النقود كالنصب والثبوتيات المزورة والبطاقات المضروبة.
ولعل أقل المهن المنتشرة اليوم وطأة هي مهنة "الدورحي" –كما يسمونها في حلب- حيث يقوم بها مواطنون يحجزون أدواراً في الطوابير أمام الأفران ومحطات الوقود بهدف بيعها للمضطرين بضعفين أو ثلاثة.
أفضل استثمارات الأزمة.. دولار وذهب:
نأتي على المواطن الذي يمتلك مخزوناً نقدياً معيناً، ما أفضل الحلول للاحتفاظ بالمال؟!
كجواب أولي على هذا السؤال لأي سوري يقول: "حولهم دولار أو اشتري ذهب".
هذان الجوابان هما السليقة السورية اليوم.. لماذا؟
سعر السبيكة الذهبية ارتفع مؤخراً من 450 ألف ليرة إلى أكثر من ستمئة ألف ليرة سورية، وذلك في أيام قليلة..
الليرة السورية تفقد قيمتها الشرائية وسعر صرف الدولار يرتقي إلى حدود قصوى وسيلامس الـ 500 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد!
إذاً بغض النظر عن المضاربة بالدولار وما تحمله من إضعاف للاقتصاد الوطني، باتت أكبر هموم السوري اليوم هي المحافظة على ما في جيبه من قيمة شرائية والقدرة على المعيشة ومواكبة الغلاء والتلاعب عليه.
تجارب من العامة:
هم ليسوا بأمراء حرب، ولا بتجار أزمات أباً عن جد، ولم يفكروا باللعب على صيغة "تجار حروب" للاغتناء منها، ولكن للقصة –كما رأيتم- بداية.. هم موظفون وربات بيوت وطلاب جامعيون حولتهم الأزمة إلى...
السيدة هادية ربة منزل خمسينية، تقول إن أفضل الاستثمارات اليوم هو استثمار المال في الذهب لأنه رابح بالمطلق.
تقول: خلال عام استثمرت مبلغ مليوني ليرة سورية بشراء الذهب، وحتى اليوم حققت أرباحاً قاربت 350 ألف ليرة سورية. وذلك بعد خصم أجرة التشغيل عن كل غرام ذهبي..
طبعاً أنا أتحرى شراء الليرات الذهبية والأونصات والسبائك لأنها ذات أجرة شغل أقل ويمكن أن تحقق أرباحاً أسرع. فهي أضمن من أي تجارة وأجمل.
السيد أبو نضال موظف في الاتصالات يقول: إن الاستثمار في الذهب يخسر أجرة التشغيل، فهو ليس برابح إلا على المدى البعيد، ولكن الربح المضمون والسريع وأفضل استثمار للمال اليوم لمن ليس لديهم وقت لعمل إضافي هو المضاربة بالدولار، فهو المربح السهل من دون عناء العمل.
يمكنكم كصحافة اقتصاد أن تراجعوا الرهانات الخاسرة على رفع قيمة الليرة السورية منذ سنوات عدة. فمن 100 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد عام 2011 إلى 200 عام 2012 إلى حدود 500 ليرة –كما أتوقع- في منتصف 2016.
فكل عام الدولار يزيد والليرة تنقص، فبرأيي أن أفضل استثمار هو في الدولار. وأنا بالواقع أستثمر اليوم أكثر من 8 ملايين ليرة سورية بالدولار ولم يكونوا بالواقع سوى مليون واحد منذ سنوات!!.
نور الدين، شاب عشريني يعمل سائق سيارة أجرة يقول: إن أسعار جميع السلع تزيد بشكل يومي.. بل ساعي، وإن أسوأ ما يمكن للمرء أن يفعله هو أن يحتفظ بمال جامد، لأن قيمته تنخفض كل ساعة..
أنا أدخر معظم ما أجنيه من عملي على سيارة الأجرة لأشتري به مواد تموينية وأخبئها، كالسكر والرز والزيت.. أخبئها ضمن غرفة في منزلي وأنتظر قرابة أسبوع أو اثنين وأطرحها مجدداً في السوق في بسطة أو بالاتفاق مع تجار مفرق لأجني الأرباح سريعاً.
إن اشتريت بضاعة بمئة ألف مثلاً أربح فيها بعد أسبوع ثلاثين ألفاً من دون عناء أو تعب.. وهي أفضل من عمل التاكسي، ولكن "كله بيسند بعضه".. فالأسعار كما ترى نار مشتعلة ويجب أن تؤمن لقمة العيش.
تعقيب :
إن كل من تحدث من المواطنين وكل من المسؤولين وكل من التجار الكبار "حيتان السوق" ومن هم أمراء الحرب، وحتى أنا، لا ندرك حجم الفتحات التي نحدثها في مركب الوطن الذي يغرق بنا؛ مات من مات وبقي من بقي منا متعلق بطوق نجاة أو يقف على ساري يظن أنه الناجي الأوحد، لن نطيل عليه الأماني بإخباره أن المركب حين يغرق في أعماق الفوضى والجوع والطبقية فسيسحب كل من خصف من ألواحه ليصنع منها طوفه الخاص، ولن نتجاوز الحدود إن حذرنا من المدعين الداعمين لشبكات كاملة من الفساد ولدت منذ أمد ليس ببعيد.. هاهنا.