الأمة والقومية
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٣ يونيو ٢٠٢٣
لا سبيل لفصلهما عن بعضهما، لأن ارتباطهما وثيق، فالقومية كفكرة تنسب إلى الأمة، والأمة تعني الناس والحياة الإنسانية، وأخطأ المفكرون الفرنسيون عندما ربطوا الأمة بالدولة، ولم يخرجوا من تصور الأمة إلا على شكل دولة، ولم تستطع جميع الديانات الروحية أن توحد القوميات، وكذلك لم تنجح في إيجاد رابطة أقوى من الروابط القومية، وحتى القول "الأمة الإسلامية" غير دقيق، وأعتبره خطأً فكري لتنوع قومياته، فالدين يدخل في الفرد، وكل دولة تعتبر أكثريتها أن ما تؤمن به دين رئيس، أو تستعين بتشريعاته، إضافة إلى القوانين الوضعية، والدول العلمانية لا تأخذ به.
إن العلم الحديث يميّز بين مفهوم الدولة التي تقوم من السلطات، وبين مفهوم الأمة التي تقوم على جملة روابط ثقافية وروحية واجتماعية وغيرها، وإن القول بعكس ذلك يحمل الكثير من الخطأ في الفكر السياسي والفلسفي الاجتماعي، وللعلم إن مفاهيم الأمة والقومية والدولة هي مفاهيم حداثوية، ظهرت بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أي مع ظهور الاستشراق والاستغراب، من المفكرين والفلاسفة الذين تبنوا نظريات الانتماء والهوية الوطنية.
الإنسان في تكوين الأمة هو الأصل، وأوطان الأمم والشعوب لا تحددها النظريات الفلسفية أو الميول السياسية، وإنما يحددها الواقع والتاريخ، واجتهدت الحضارة العربية كثيراً في قولها إن الإنسان هو الاختراع الأعظم في الحياة المستمرة به، والأمة العربية ليست أماني وذكريات، إنما هي بنيان اشتركت في بنائها لغة ويد السماء مع إرادة إنسان هذه الأرض محدثة تكاملاً وانسجاماً، أظهر نشأته بشكل مقدس ورسم لها هالة من الطهر.
القومية سابقة في وجودها على الدولة، وما الدولة إلا تعبير عن القومية، والقومية العربية تعثرت ضمن مسيرتها الحداثوية، ولا تزال تتعثر، والسبب إيمان البعض بها ورفض الآخرين لها، ناهيكم عن كمّ العداوات التي تعرقل التكامل الاجتماعي واستقلالها الاقتصادي وانطلاقها السياسي.
لا خوف على أمتنا في مستقبلها، وبما أنها كائنة، فلا ريب في أنها ستنهض من جديد، ولا خوف عليها من أعدائها، رغم ما يحاك لها، إنما الخوف عليها من أنفسنا، وإن قيامتها مرتبطة في أن يعرف مواطنوها وأبناؤها قيمتها، وألا نخدع بغير ذلك.
إن كارثة ماحقة أصابت أمتنا، فلم تعد تجد من الإباء والوطنية والمشاركة مثل ما عند البعض من الحيوان، فمثلاً جماعات النمل أو النحل وغيرها يظهر عليها الغضب، حين يغضب واحد منها لسبب ما، فتأخذ في التجمّع من غير أن تدرك له سبباً، وبعض التجارب عملت على استثارة قرد، فإذا جماعة القرود تخف إليه وتتجه نحوه، لتثأر وتنتقم، وكذلك تجد جماعات النمور وغيرها.
يعتبر السورين أن سورية ليست وطناً كامل الحدود، بل إن البلاد العربية هي وطن واحد كامل الحدود لأمة واحدة سائرة قدماً نحو تحقيق أهدفها القومية، وهذا في اعتقادي شعور كل مواطني الأقطار العربية.
وإن ما أريد الوصول إليه أن الأمة والقومية محكومتان للعروبة التي انبثق منها أعداء محدثون، خرجوا من بين جنباتها، وظهروا عليها، وأستطيع هنا أن أصنفهم أولاً دعاة القوميات المحلية والرجعيين من ذوي العصبيات القديمة، ومعهم الوصوليون والانتهازيون، ولكن أهمهم أنصار الصهيونية العالمية والمتصهينون من أبناء هذه الأمة، هؤلاء الذين يقاومون العروبة ومنطقها بغاية الحفاظ على مصالحهم اللا شرعية.
من الضرورة بمكان أن أشير وبمصارحة كبرى هنا إلى أن الشعب العربي في أقطاره يدرك أكثر مما تدرك حكوماته مفهوم وحدة المصير، والدليل أنه عندما تريد الأمة تكوين وحدتها القومية فهي لا تنظر إلى حدودها الاصطناعية أو الطبيعية، إنما تنظر إلى إنسانها، والأرض التي تكوّن اليوم الوطن العربي على أنها أرض مشتركة وإنسانها يمتلك خصائص مشتركة، وإن كان يحيا بين ظهرانيها بعض من الأقليات القومية، ولهم لغاتهم الخاصة بهم، فمن المنطق ألا يتم اضطهاد لغاتهم، بل تعزيز اللغة العربية إلى جانب ما ينطقون به، والغاية من هذا التعزيز ليس اللغة بذاتها، لأنها تمثل لغة ثقافة وتفاهم معهم، ولهذه الأقليات حق الحفاظ على ثقافاتها وتقاليدها وعاداتها، مادامت تحيا على أرض الأمة، وتحيا ضمن قوميتها أيضاً.
فإذا كانت التيارات الفكرية العربية مقلدة لأيديولوجيات، فالأولى بها أن تنال من أصالة الروح العربية، وتعلي شأن قوميتها وأمتها، أما أن تبقى على ما هي عليه فيعني أنها مرتمية في أحضان الآخرين.
د. نبيل طعمة