الإنسان نوع واحد
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٧ يونيو ٢٠٢٣
الحيوان أنواع وكذلك النبات ومعه الجماد، الإنسان بمفرده مسؤول عن نوعه ذكراً كان أم أنثى، وعن الشكل الحي والمادي المنتج منه، فبعد أن فرز نفسه وعرّف وجوده بإنسان مايز بين الأجناس وحكمها واستثمرها بشتى الطرق، سليمة كانت أم جائرة، وفي الوقت ذاته حمل كثيراً من الأعباء، وأهمها العمل على تطوير الجوانب الإنسانية كي تزدهر إنسانيته على حساب جشعه ونهبه لثروات هذا الكوكب، وأهم من ذلك لجم تعديه على أخيه الإنسان.
إذا عدنا إلى التفكير الأولي في أن جنس الحيوان أنواع، فلا يجوز أن نفكر في الإنسان إلا من باب أنه نوع واحد، يمثل فرداً ومجموع أفراد، وأن كل فرد يمتلك العقل والمشاعر والأحاسيس والأفكار، وعندما يستثمرها يغدو في الطبقة العليا ومنه من يستسلم لها فيغدو منفذاً للطبقة العليا ومنه من يتحول إلى أدوات تنفيذ وهي طبقة العمالة، وهذا يرينا ويؤكد صحة أن الإنسان نوع واحد لكنه طبقات فكرية، وما أوجده الإنسان من إبداع في كل محاور الحياة؛ اجتماعية صناعية تجارية سياسية، ما كانت لتكون إلا وسائل لتحريره من لغة الحيوان أو النبات أو الجماد، لأنها تزيد من حضوره، وتقلل من عوزه وحاجته، وتمنحه استقراراً ووعياً لإدارة موارده وقيادة مجتمعه أو بعضاً منه بحكم اتفاقه عليه أو تشغيله له أو إدارته بعلمه لبعض منه لتمثل له إرادة تحرر وثقافة تمنعه من القتل أو السرقة أو الاغتصاب، فالإنسان يتقاتل عندما يندر الكلأ والماء، بينما نجده لا يتقاتل على الهواء، لأن من دونه يموت الجميع.
إنسان القرن الحادي والعشرين ممتلئ بقلق مبهم، يصاحبه إحساس عبثية الحياة وانعدام المسوّغات لبذل الجهد وللتدبّر والطموح، قد يباغته انهيار قسري لا يدري أسبابه، وبما أنه معاصر لوسائط التكنولوجيا والاتصالات المتسارعة، ويفترض أن هذا التسارع يجب أن يواكبه تقدم مماثل في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي بمحاوره الزراعية والتكنولوجية والتجارية والصناعية، إلا أنه وجد اتساع الشروخ بينه وبين كل ذلك، والسبب طفرات العقول المعاصرة وتوهانها بين العلم والفكر، وفقدانها لأهم ميزات الإنسان أنه أنتج بحور العلم وتخصصاتها، ثم عاد ليستفيد منها، هذه التي تفيده على قدر ما يستفيد من قدراته العقلية، وبما أنه يحيا في عصر التسارع العلمي ومخرجاته، ظهرت تمايزات كبيرة بين أفراد الكثرة، وغدا النظر إلى أفراد الناس غير متساو،ٍ وطبعاً السبب الرئيس في هذا كله هو التكاثر الهائل، فبينما نرى تناقصاً كبيراً في أعداد الحيوان، وتراجعاً أكبر في الزراعة نتاج ترييف المدن وانحسار المساحات الخضراء والغابات، وتقدم التصحّر وظهور الكتل الإسمنتية واضطراب البيئة والمناخ نتاج خلل في استهلاك الموجود ومخرجات الاستخدام اللا واعي للأسلحة في المعارك، ولذلك نجد ازدياد حجم التمرّد على الواقع ودخول الأفراد من الإنسان في حروب طاحنة مع بعضهم من أجل ماذا؟ من أجل تكثيف القوة العظمى وزيادة التملّك، إذاً كيف يؤثر العلم والفكر في تصورات الإنسان المنجب الرئيس لكل ذلك؟ هل ظهر الإنسان الفريد من ضرورات العلم والتكنولوجيا العالية أم من خلال المثل الروحية التي أوجدها في سابق عهده نظراً لخوفه من المجهول أم انه أدرك أنه قوة هائلة فراح يبحث عن أقوى منه؟.
الإنسان هذا الذي صنع التنوع الحضاري والتنوع الديني وصنع التخلف والتقدم ووصل إلى التقدم والعنصرية، التي أنجز بها تفوقاً علمياً مذهلاً، إلا أنه معها فقد شعوره بالانتماء، وأحسَّ بالضياع نتاج وجوده في زحمة التكاثر، وفقدانه روابطه العميقة بالجذور، وأحسَّ بالعزلة رغم تكاثر الناس حوله.
هذا يقودنا إلى الإقرار بأن ديناميكية العلم لم تستطع أن تمحو أو تقلل بالحد الأدنى من الفوارق بين الأفراد، عقلية فكرية كانت أم اجتماعية، بينما استطاعت الأفكار الروحية الجيدة فعل ذلك وببساطة متناهية، وهنا نجد أنه كلما حدث التطور العلمي، ظهر تفتت في المجتمعات، جعل منها أشلاءً، فهل المطلوب من التطوّر إبقاء تفتت هذا النوع المسمى إنسان، وتحوله إلى درجات تدوس على بعضها، وهي في حالة الصعود؟ أم علينا التفكير بالعودة إلى الوحدة الكونية التي أساسها وعمادها الإنسان الذي من دونه لا وجود ولا حياة؟
إنساننا العربي من سلسلة الإنسان العالمي، إلا أنك تراه متصلاً معها ومنفصلاً في آن، أو هو تائه بين محاولات التواصل مع الواقع، ويريد أن يصل المستقبل لكنه متعلق بالماضي، كيف فعل الآخر الإنسان من نوعه؟ حتى اللحظة لم يجد الوسيلة، أعتقد أنه يبحث في كونه فرداً قادراً أو مجموعاً يقدر.
د. نبيل طعمة