الإنسانية ... دين
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢١ نوفمبر ٢٠٢٣
ما دفعني لأخط هذا العنوان هو أن أحدهم سألني: من أي طائفة أنت؟ فأجبته بلا تردد: طائفتي الإنسانية، هذه التي تتجاوز الدين والعرق واللون، فأجابني: لذلك تحاربها الأديان كما حال الحب الذي تغتاله البشرية بالاحتيال عليه، وكلاهما مسجونان في العقل والقلب البشري، وأنا أدعوكم لمساءلة أنفسكم: هل أنتم راضون عنها وهل أنتم متعلقون بمعتقداتكم؟ لأن الرضى لا يتحقق إلا من نتاج الأفعال الإنسانية، ليس بالكلام ولا بالطاعات والتبعية، ولا بالعبادات الفردية التي وُجدت من أجل أن تنعكس على الآخر والمجتمع بالعمل الإيجابي المنتج، وبذلك يستطيع المرء فهم رضى الإله (الرب) والأم والصديق والمشاهد القريب والبعيد، دققوا معي، تأملوا وتفكروا، كيف أن جميع الكائنات الحية فُطرت على رعاية مواليدها إلى أن يصلوا لسن الحماية، من جنس الإنسان إلى جنس الحيوان بأنواعه، حتى النبات نجده يحنو على فروعه وأزهاره وثماره، ولكن ما يميز الإنسان أنه يتعلق بدين، وبذلك يكون متديناً، ومن خلال هذا الدين يهتم فقط بعلاقته مع إلهه، الذي يتحول به إلى كائن ديني من أجل رعاية مصالحه التي تُظهر أنانيته دون أن يدرك ذلك التحول، وهذا يعني أن كل ما ينتجه أو يقوم به يبحث به عن أجر، حتى وإن فعل هذا الإنسان خيراً أو قام بعمل لمصلحته فهو أيضاً ينشد منه أجراً مادياً، وإذا لم يحصل على هذا الأجر توجه إلى الإله طالباً منه ذلك، وهذا يدفعني لسؤال: ماذا تفيد الحسنات المنشودة إن فقدنا إنسانيتنا؟ وما معنى السياسات التي تدير المجتمعات والدول "بالفن" إن لم تهذبها الإنسانية؟ فعلى الرغم من وجود فوارق كبيرة بين السياسة والإنسانية إلا أنهما يحتاجان بعضهما، بديهي أن أقول أن الجميع أتى إلى هذه الدنيا من أرحام النساء، تحت مسمى مولود "إنسان" من الطبيعي أن تكون الحالة الإنسانية لحظة الولوج مذهلة، وهذه اللحظات فقط هي التي تجعل الجميع يدين بالإنسانية، وبعدها يبدأ الانقسام ورسم الاعتناق للأديان، فهذا بوذي وذاك هندوسي ثم اليهودي والمسيحي والمسلم، وتتوالى الانقسامات في الأديان لتظهر الطوائف والمذاهب، وتبدأ الأسئلة: ماهي ديانتك أو طائفتك أو مذهبك؟ وبدلاً من أن يجيب بأن طائفتي هي الإنسانية وبها أتجاوز الدين والعرق واللون، يؤكد أنه مسلم من طائفة كذا أو مسيحي كاثوليكي أو أرثوذوكسي أو بروتستانتي إنجيلي أو سرياني أو يهودي أرثوذوكسي أو صدوقي أومن ناطوري كارتا، والكل لديه إله وتعاليم يدافع عنها بقوة وشراسة، وهي التي ستدخله الجنة أو إلى ملكوت الأبدية بثياب بهية، الطائفة الإنسانية تحترم كل المعتقدات وكل من يؤمن بها شريطة ألا ترجم أحداً بحجارتها، حيث تبين لنا أن الذين يرجمون الشيطان، منذ أربعة عشر قرناً، ماتوا ولم يمت المرجوم، ذلك لأنهم أسكنوه في داخلهم وعملوا بإرشاداته، ولو أنهم آمنو بالإنسانية لمات ولما كان موجوداً، ليس فقط عند المسلمين بل عند جميع الأديان بشكل أو بآخر.
كيف تكون الجنة للمسلم فقط وكيف لا يدخل الملكوت إلا مسيحي؟ وكيف خلق الله اليهود من جوهره وخلق باقي البشر من نطفة حمار؟ والكل يدعي العدل وأنه الأفضل، بينما تستمع الإنسانية للتراتيل والترانيم الجميلة وتتمتع بها، ومعها تتمسك بالغناء والموسيقى والعمارة والنحت والرقص والتمثيل، وتتابع الفكر والمفكرين والإبداع والمبدعين، وتبحث عن كل مفيد وهام، لذلك أجدني أدافع عن الإنسانية كدين لأنها تمنحنا مفهوماً جديداً للحرية، فلا يمكن لأحد أن يغدو حراً ما دام يملك تمسكاً أعمى بما هو مقدس لديه، فالحر وحده القادر على التفكير الإبداعي والنقد التصحيحي ومسح الماضي السلبي الذي ورثه أو صُنّعَ له، وطالما أن الأديان تعتقد بأن التفكير خطر والشك جريمة، وأن عليها أن تتمسك بالتسليم لما قُدر لها، فسأبقى أدافع عن الإنسانية كدين وأتمسك بديانتها، ولو أن البشرية دانت بها لما شهدنا عالم القتل والتدمير والتهجير والاستغلال الجنسي والمادي، ولما كان هناك اعتداء أو احتلال أو انتهاك للقوانين الإلهية أو الوضعية، هنا أقول أن الإنسانية ليست فكرة بل مبدأ إنساني قامت عليه الحياة، يؤمن بالأفكار لا بالأشخاص، وهذا يعني أنه يؤمن بالأفكار الدينية الحقيقية التي تؤمن به، وبه فقط نجد أن رضى الآلهة لا يتحقق إلا بالإنسانية التي لا تهاجم المعتقدات أو المقدسات إلا عندما تمنع هذه الحريات وعندما تعتبر أن التفكير خطر والشك جريمة، الإنسانية تبني الجنان لمخلوقها البشري في حياته كي يستمتع بها ويدخلها في رحلته الأبدية، بينما العقائد الأخرى تستخدم مريديها لإقناعهم بوجود الجنان وإغرائهم بالدخول إليها بعد رحيلهم.
الإنسانية دين إن لم يؤخذ به فإن الحياة ستبقى منقوصة، وبدونها تحل الفوضى والوحشية والهمجية، هذا ما نراه واقعاً الآن على كوكبنا الحي، فهل نعود إلى إنسانيتنا بعيداً عن كل ما يجري، ونعيد للحياة معناها الدقيق التي وُجدنا من أجلها؟؟
د. نبيل طعمة