الاستهلاك الهستيري
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
يُظهرنا كمجتمع متخلف، لم نصل بعد إلى عتبة التطور، فمازلنا نتهافت على الاستهلاك دون وعي، بدلاً من الاتجاه لثقافة الإنماء والتطوير والإبداع، رغم كل المحاولات الخجولة التي يحاول البعض إقناعنا بها على أننا مجتمع منتج، صحيح أن بعضنا ينتج فعلاً إلا أننا نستهلك بشراهة كل ما هو متوفر، منتجاً كان أم مستورداً، وهنا أدعو الجميع، ودون استثناء، للتفكر ومن ثم التعامل مع هذا العنوان، الذي لا يشير فقط إلى حجم التخلف في هذا المحور، الأكثر من هام، المؤثر سلباً في حركة التطور الاجتماعي؛ بل ويؤكد عليه، ومثل هذا الأمر ينطبق على المجتمع العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص، فهذا المشهد المفجع في الإنفاق على المواد الغذائية ومتمماتها والانفلات الحاصل في الأسواق لا يتوافق حتماً مع الفكر البنائي الذي تسعى إليه منظومة الدولة، ولا مع الفكر الإيماني التعبدي والأخلاقي الإنساني الذي ترتكز عليه هذه الدولة، الأمر الذي يعني بدقة مفاهيم العمل والإنتاج والإبداع، وإصلاح الخلل الذي يبدأ من مفهوم مدخول الأسرة ونظم توزيع إنفاقه على مدار الشهر، نتاج ضعفه عند سواد المجتمع ووفرته لدى الندرة من هذا المجتمع، مؤكد أن هذا الأمر غير واقعي في مجتمعنا ولا يرسم ملامح صحته، رغم أن جله منتم إلى حزب أو يتبع ديناً أو مذهباً أو طائفة، وأن لكل من هؤلاء التزاماته الأيديولوجية، إضافة إلى صومه وصلاته وصدقته وزكاته وكل عباداته، علماً أن السواد الأعظم منه فقد مصداقيته، لأن الاستهلاك الهستيري وضعف المدخول المادي أو كثرته دفع الجميع للغش والتلاعب والرشى، فتطور الفساد وانتشر الإفساد حتى انطبق عليهم مثل (سليمان الحكيم) " سيدنا سليمان مات أخضر يابس هات" القادم من "قصة الطرشان الوقادين المسؤولين عن التدفئة الأرضية في قصر سليمان" بينما الغرض الرئيس من الانتماء إلى الدولة أو إلى الدين يكمن في تعلم الإخلاص والدقة في العمل وفعل الخير والإحسان، والتمتع بالأخلاق والتعاطف والصدق، أي أن وحدة الأغراض السامية والأهداف النبيلة يجب أن تكون متوافرة، وأهم ما يستوجب حضورها وحدة الإيمان والالتزام بالدولة والإنسان، هكذا تفعل الشعوب المتحضرة.
لم نتعلم ثقافة الاستهلاك وتقنين الحاجات والاحتياجات، ومازالت مجتمعاتنا تعتمد نظم الشراء الكمي وتأكل بالكم ولم تصل إلى مفهوم القيم الغذائية، ترتفع أسعار مادة ما، فبدلاً من الامتناع عن شرائها أو الانتظار حتى تهبط أسعارها نتدافع أكثر لشرائها، وكلما ارتفع ثمنها تدافعنا أكثر لاقتنائها، قبل أربعين عاماً كنا في برلين الغربية وقد اعتدنا هناك أن نشتري في عطلة الأسبوع ما نحتاجه لأسبوع، وفي إحدى المرات، وفي السوبر ماركت، أخذت فروجاً نيئاً ووضعته في السلة مع باقي الاحتياجات، وإذ بسيدة ألمانية تقول لي: أعده إلى مكانه، لقد رفعوا سعره بمقدار خمسين بالمئة، انتظر يومين فقط وينزل سعره إلى نصف ما كان عليه سابقاً، وفعلاً وبعد يومين هبطت الأسعار إلى أكثر من نصف سعره القديم، مقارنة أطرحها من منظومة ثقافة الشراء، لأن هذه الواقعة تستخدمها الشعوب ذاتياً، دون توجيه من الدولة عند شراء الاحتياجات، فالمعروض إذا لم يتقدم أحد لشرائه فمن الطبيعي أن تنخفض أسعاره، ونحن بعد أربعين عاماً مازلنا نتدافع لشراء أي مادة، مهما ارتفع سعرها.
مما تقدم سأدخل في حوار تحت عنواننا الآنف الذكر وأقول: إن أي شعب يفقد ذائقتي الجمال والتذوق يتحول إلى شعب مستهلك، ومن النادر الآن أن يجد المرء مساحة على وجه الأرض مملوءة بالسعادة والرفاهية والنعيم الإنساني، لأن جميع هذه الشعوب لديها مشكلاتها وأزماتها واضطراباتها، تتعايش مع مشكلاتها قسرياً إلى أن تعيد ترتيب وجودها ومنظوماتها الحياتية على قياس قدراتها، الأمر الذي يوفر لها الاستمرار والصمود والنجاة من السقوط، وهنا أسأل: كيف تعاملنا مع التحديات الطارئة والمسقطة علينا؟ وهل أوجدنا البدائل التي تمتلك الحلول الناجعة؟ هل تعلمنا الاقتصاد في الكهرباء والماء والهاتف والمواد الغذائية؟ هل امتلكنا ثقافة الاقتصاد المنزلي والمجتمعي والوطني؟ أم أننا نسعى دائماً لالتهام أي شيء، أو بالأحرى كل شيء، فقط نريد أن نأخذ، ونطالب بالمزيد دون أن نقدم أي إنجاز، مع العلم أننا من أكثر شعوب الأرض استهلاكاً لكل شيء، وللأسف نجد أن الدولة تتحمل جزءاً هاماً من هذا الذي نحن عليه، وطالما أننا نحيا على نظرية الرز والسكر والشاي والوقود، وأهمها أن الخبز خط أحمر، والمعروف أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" بل بالعمل والإنتاج، هذا الذي لا نتوقف عن استهلاكه بشكل عبثي؛ وهذا يعني أننا شعوب مستهلكة غير منتجة وغير مبدعة، الغني لا يدرك معنى الإنفاق والاستهلاك، والفقير أضاع ثقافة إدارة الدخل التي كانت أهم ثقافة متوافرة في المجتمع السوري، عندما كان يملك دخلاً مقنعاً، ذهب الكل ليجني من أجل الطعام والجنس والتملك الفوضوي الشخصي، لا من أجل بناء الشخصية العامة الإنتاجية أو الإبداعية أو الوطنية.
من كل هذا أجد أنه لابد لنا من ثورة فكرية ومناهج استثنائية، وإعلام تخصصي يقف خلفه قرار خلق لغة جدية في الاستهلاك قابلة للحياة؛ لا تقبل بدحرجة الأمور ولا تؤمن بفرضية (دعه يمر)، وترفض مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) وتجيير الأمور، علينا ألا ننكر أننا في حالة ركود وأن الظروف الآن ليست في صالحنا، وأن تراجع كافة القطاعات الاقتصادية ليس سببها العقوبات الدولية والمحيطية فحسب؛ بل بسببنا، نحن جميعنا من يسهم فيها، من خلال عدم وصولنا إلى ثقافة الاستهلاك، والتي اعتبرها أهم ثقافة تظهر في الأزمات، ومن خلالها يقاس تحضر الشعوب والأمم.
د. نبيل طعمة