الانتصار على الحياة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١١ يوليو ٢٠٢٣
البلاغة في الإيجاز، وتعوّد العمل نظام، والنظام عندي اقتصاد، والاقتصاد يحمي المجتمع ويقود السياسة، ويُحدث براعة خلاقة ذات جمالية في البناء والتركيز، وتكبر الدول وتغدو آية من آيات التصميم الهندسي الدقيق ويغدو ظاهراً للعيان بفضل اتباعها نظمَاً نوعية تبني عملياتها بعد أن تتبين إمكاناتها الواقعية بعيداً عن أي مزاودة، مستندة إلى أن الحوار ملكة مهمة، غايتها إنجاز رأي أسسه التركيز، فيما يراد الوصول إليه، والتقاط الملامح التي تبنى من المواقف، والإشارات التي تظهر الاختلاف وألد أعداء الحوار الإطالة والدوران في الفراغ، فإذا أدركنا أن لكل كلمة تلقى لها حيز مرقوم ووقت معلوم، نصل إلى الأهداف، ونختصر الطرق.
مجتمعاتنا ممتلئة بالمسائل الجدلية المعقدة التي يجب أن تحلها السياسة بدعمها لإصدار التشريعات المتقدمة على الواقع الذي يجب أن يعالج أنواع الأمراض المسكونة في الذهنية المحلية والعربية، التي تجعل منها مأزومة حتى في رخائها، لأنها تحيا بين نقائض الفكر، غربياً كان أم شرقياً، وأيضاً بين كم من الأحداث التي تتجاذب أطرافها حتى تصل إلى عمقها، ورغم كل هذا الظلام الفكري ظهرت بارقة تجلت في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد هذا العام في جدة، تمثلت في (خير الكلام ما قل ودل) حيث أوجز القادة بعد أن منحوا خمس دقائق كان على كل واحد منهم أن يوصل ما يراه إلى الجمع بإرادة الوصول إلى نتائج قد لا تظهر إيجابياتها إلا بعد حين.
لا شك أن هناك شيئاً تغيّر في الذهنية المحلية والعربية، رغم أن هناك أشياء ثابتة لم تتغيّر، ومَثَلي هنا أن ألوان الحياة المادية وأشياء من الروحية قد تغيرت كثيراً كالملابس والأطعمة والأشربة والمثلجات والمرطبات، وحتى الأفكار، الجدلية المادية والعقائدية على اختلافاتها، بينما العناصر الأساسية بقيت كما هي كالخضار والفواكه والماء والهواء وحياة المجتمعات، طرأ عليها الكثير من جديد المظاهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهناك أشياء لم تتغيّر إلى حد ما، هي الأحاسيس والمشاعر والجمال الفكري الذي ينعكس على الإنسان ومنتجه المادي والأخلاقي، لكنها آخذة في الانحسار لمصلحة الانفلات الذي يظهر بشكل لا عقلاني، لكنه يحمل في جوهره خطط وقف التكاثر والتخفيف من الكثافة البشرية بشتى الطرق.
الإيمان بالحياة يؤدي إلى الانتصار عليها، هذا الإيمان يولد سؤالاً: ما الذي يخيفك من غدك؟ فليس أقسى علينا من حالاتنا وليس ما يفتك بنا إلا من صنعِ أفكارنا وأيدينا، والعلم وحده يَضع في يد الإنسان مفاتيح الحياة، وعلينا أن نلجمها ونرتادها ونستكشفها بغاية تكوين الخبرة بها، فإذا وصلنا إلى استيعابها كنا أحراراً، وإذا تنازلنا عن ذلك صرنا عبيداً، صحيح أن الشهرة عبودية، وأقصد بعواقبها السيئة وأعبائها الثقيلة، إلا أن بها محاسن جمة تمنحها حضورها، ومن أهمها توليد الطموح عند الآخر من خلال تبليغ رسائل الارتقاء ونشر الأفكار الخلاقة في المجتمع وتقديم ما يفيده.
الانتصار على الحياة يحتاج إلى خلق رأي عام يبدأ من بناء شعور الانتماء إلى المجموع، ومن ثم التوافق على موقف موحد إزاء أي فكرة أو مسألة أو موضوع يأخذ شكل القرار، ويخرج كأنه من قلب واحد وعقل واحد، وصحيح أن انتصار الفرد لذاته يشكل قوة دافعة له، إلا أن الانتصار الحقيقي يكون مع المجموع وبه يحدث التطور، وهذا لا يوجد إلا إذا كانت البنية قابلة للإصلاح، وتقف على أرض خصبة قابلة للاحتضان التنوع من جنسها، تحمي عقائدها وآمالها وأهدافها، وعكس ذلك يعني التفرد الذي يؤدي في النتيجة إلى شلل الفكر وانكفاء الشخصية وتوقفها عن النمو والنضج، حيث تظل بلا حراك وتتقهقر إلى الأطوار البدائية، وإني لأرى أن أهم أدوات النهوض تكمن في المحافظة على تنمية الأدوات الفكرية وتحول الرأي إلى ظاهرة ضمن الحوار الذي يدعم الشخصية التي تؤمن بالشعور العام الذي قلما يختلف بين إنسان وآخر.
هنا أختم بسؤال: ماذا تصنع في الحياة؟ وأقصد عملك فيها وسعيك إلى تأمين وجودك، فإذا نجحت، وإن كان في الحد الأدنى، فإنك انتصرت، والنصر يعني أنك تحب، والحب يبنى في كل شيء تمنحه من وجودك روحاً جديدة، وهذا هو جوهر الانتصار، وأعني أن تعطي الحياة كي تعطيك.
د. نبيل طعمة