التربية مطلب واقعي
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
أهمية إعداد الإنسان غدت أكثر من ضرورة، ويتزايد الكلام عليه في تحليلات كل علماء التخصصات، وتحت ضغط هذا المطلب، الذي أصبح أكثر من هام، يتأكد الطلب الاجتماعي المرتبط في النتيجة بتطور الأسرة التي تشكل عماد الدولة وتمنحها حرية نوعية في الحركة والتقدم، وتحصن كرامة الفرد والمجتمع، وإذا كان هذا المطلب بسعته وديناميته يطرح ضمن أركان الدولة مسائل صعبة، ليست تكتيكية أو اقتصادية أو انتاجية أو إبداعية فحسب، وإنما هي سياسية أيضاً، والذي يدعو للبحث في هذا المنحى أن التفاوت مفجع بين الظمأ للتربية الذي أخذ يهز المجتمع إنسانياً نتاج التراجع والانفعالات والانتماءات اللا مسؤولة أمام التقدم العلمي الإقليمي والعالمي الذي يتحقق كل لحظة، هذا الذي يبهر اللغة البصرية دون القدرة على فعل أي شيء، والاكتفاء بتدوير زوايا الانتظار، أين نحن فيما يتعلق بنتائج التربية، يصعب علينا أن نقول ذلك بالضبط الآن، لأن الإحصاءات التربوية ما زال ينقصها الكثير من الدقة وتفتقد لعناصر المقارنة، وإذا عرفنا أننا متأخرون كثيراً عن الركب الإقليمي فكيف بالعالمي، والدلالات تبعث بوضوح على القلق، لا سيما عند المقارنة بالمد الصاعد من الأجيال للمطامح والمطالب وانتشار الأحلام التي تذهب بالعقول إلى التخلف والتقهقر، وهذا ما أجده مدعاة لعدم إغفال دور التربية ووسائلها في تحقيق الإنماء الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، رغم جهود الدولة الهامة والداعمة لعملية التربية، إلا أننا مازلنا نجد أنفسنا بأننا بعيدون عن الشروط الواقعية للتنمية الواقعية وعلى محاورها الفنية والنظرية، والظاهر للجميع أن كثيراً من حملة الشهادات إما أن يجدوا أنفسهم مزودين بإعدادات غير ذي فائدة، وأيضا أعدادهم فاقت كثيراً الاحتياجات، حيث لم يعد هناك أماكن تستوعبهم في الأمكنة الصحيحة أو تأخذ بأعدادهم إلى الأماكن التي تخالف ما أُعدوا من أجله، وفي النتيجة يظهر لنا تراكم المشكلات وتسارع الإحباط، وهذا يغدو أشد خطورة حين ننظر إلى الذين تركوا الدراسة قبل نهايتها؛ إن كان في مرحله التعليم الأساسي أو ا لثانوي أو الجامعي.
هنا أجد أنه من الضروري البحث في قضية الاتجاهات والأولويات المتحكمة في تنمية التربية، فالأولويات الأخلاقية مرتبطة بالتعليم الأساسي، أما مقتضيات التنمية الاقتصادية، فنياً ونظرياً، فتبدأ بمرحلة التعليم الثانوي، فلا يمكن بناء اقتصاد إيجابي إن لم يؤسس على البناء الأخلاقي الذي يجب أن يكون بشكل متين، ومنه ترسى قواعد واقعية تؤدي إلى الاستقلال السياسي، ولا يمكن أن يكون أي معنى للاستقلال السياسي ما لم يرتكز على الجذور الأخلاقية والاقتصادية.
يجب أن نتوقف عن الطرق القائمة التي يغلب عليها الصفة الكلاسيكية والاتجاه إلى إنتاج او استحضار تصورات تربوية جديدة وجريئة، وهنا أطرح مثلاً: الحرية بالنسبة إلى الشجرة لا تقوم على الإفلات من ضرورات أرضها، وإفهام نظام وشروط تجذرها مع رعايتها يوفر لها الحياة الكريمة المنتجة والمعطاءة، وفي ذات الوقت الشجرة لا تستطيع أن تذهب إلى الماء، فلكي تنمو يجب أن نأخذ الماء إليها ومتابعتها وحمايتها.
لا شك أن التعليم في وطننا أحرز تقدماً كمياً مشجعاً؛ ولكن افتقد إلى الكيفية في الجزء الأكبر منه، مما أحدث شرخاً هائلاً ضمنه، وظهر ذلك بين الكم والكيف، وهذا ما اعتبره سبباً رئيساً أدى إلى تأخير أو بدقة عرقلة التقدم والتطور، وهذا نتاج عدم التجانس بين الكم والكيف، ومن خلاله أخذ يظهر الانقسام العمودي والأفقي المزمن بين النخب التي تدعي بأن المجموع لا يستوعب قدراتها والكثرة "العامة" المحتاجة إلى التأهيل المضاف بحكم أنها تجاوزت عملية البناء الأخلاقي التربوي، إن أخطر ما يعانيه مجتمعنا اليوم ليس الأمية التعليمية، فالكل غدا لديه شهادات تعليمية، أو يجيد القراءة والكتابة، إنما من الأمية الفكرية التي لا تُمحى ولا تنتهي إلا بالتربية والتعليم الأخلاقي والتخصصي، هذا فقط الذي يؤدي إلى التطور الأخلاقي وإحداث التنمية المنطقية والخلاقة.
إن ما خططته يمثل رؤى وأفكاراً أقدمها كمضاف لما يمتلكه المسؤولون عن عمليات بناء الإنسان في التربية والتعليم والثقافة.
د. نبيل طعمة