التنافس البشري
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٣ أكتوبر ٢٠٢٣
الظاهر منه في العرف الإنساني يشير إلى حالة تطور، ويفترض أن يؤدي إلى أن تنعكس مخرجاته على الرفاهية البشرية، لكن جوهره الحالي يمنحنا فرصة الاطلاع على حجم تحوله إلى صراع بشري، بعد أن وصل إلى الثورة الرابعة التي تتجسد في الذكاء الصنعي، والتي أخذت تسيطر من خلال التسلل بين مخرجات الثورة التكنولوجية الثالثة بقوتها الرقمية، وبدأت تهيمن وتؤثر على القوى الإنسانية واحتياجاتها ومخرجاتها، وتدخل عوالم عقلها وعملها ونظمها الغذائية وحركتها الأفقية والشاقولية، لذلك نجد أن البشرية حائرة في التعامل مع الثورة الرابعة المدججة بأسلحة الذكاء الصنعي، الذي لم يتخذ بعد قرار الهجوم النهائي على كل ما جرى من ثورات صناعية وتكنولوجية سابقة، كما نجد أن الغد، أي المستقبل، أصبح مندمجاً في الواقع الحاضر، والسبب هو التداخل السريع بين تكنولوجيا الثورات السابقة وسرعة تقدم الذكاء الصنعي وعدم تطور الفعل الإنساني، وأقصد هنا تراجع أداء الإنسان باتجاه الإنسان وتآكل القيم والمبادئ والأخلاق، وهنا أشير إلى أن مخرجات العقل ومنجزات القلب هما من صنع الإنسان، فأي ذكاء عقلي هو من صنع عقل الإنسان، وأي إيمان وأحاسيس ومشاعر هي أيضاً من صنع الإنسان، ومن خلال هذا وذاك أقول: إن الإنسان لا يمكن أن يحيا بلا عقل، كما لا يمكن أن يستمر بدون خفقان القلب، وهنا ينشأ سؤال حول آلية الصراع بينهما وكيف يمكن عكسها على صراع الشرق الروحي والغرب المادي، فإن لم يتم القضاء على الرغبة في استقلال أحدهما عن الآخر فإن العنف والعدوان سيستمران في سحق إرادة الشعوب في العيش والحياة، وإن السعي لتقديم المجد للمستقبل لا يتم إلا بتدمير عقلية السيطرة التي تنجب السفاحين الذين يعتقدون أنهم يمتلكون عقلية الإرادة الحرة التي يماثلونها بعقلية الآلهة؛ هذه التي يجب فصلها عن عقلية الإله، ومن ثم إعادتها إلى الواقع البشري الذي يُبنى على التعاون لا على الاغتصاب، بحكم أن الإنسان بمفرده قليل.
الواقع يرينا أن التنافس البشري لم يعد تنافساً، بل صراعاً على الفضاء وعلى البحار وعلى الماء والهواء وعلى الاعتلاء، والكل يريد أن يكون أولاً بلا رحمة وبلا هوادة، كل هذا يدعونا للتفكير ملياً في كيفية مواجهة المستقبل من خلال مراقبة الأحداث الكبرى والمؤثرة التي حصلت ومازالت تتدحرج على جغرافية قاراتنا الخمس منذ عقدين من الزمن؛ أي مع انهيار برجي التجارة في نيويورك، وصولاً إلى الربيع العربي المزعوم وتواصل الحرب الروسية الأورو أمريكية في أوكرايينا، وتكاثر البشرية بشكل هائل، حيث وصل المجموع البشري إلى ثمانية مليارات إنسان، وهو مستمر في الزيادة، إضافة للاضطرابات المناخية وحدوث الزلازل والفيضانات وتطور الأبحاث حول البحث عن الماء، أساس الحياة، وبين هذا وذاك أخذت الثورة الرابعة المتجلية في الذكاء الصنعي تشق طريقها بقوة وتهيمن على العقول البشرية، وهو صنعي لأنه أُنجز في عقل الإنسان أولاً، ثم أخذ يسكنه في عقل الآلة وعقل الإنسان الآخر ثانياً، مما يعمق الاضطرابات والنزاعات ويضغط باتجاه استمرارها، وبتأمل بسيط ندرك أن كل ذلك غايته المستقبلية التقليل من التكاثر البشري والتحكم بهم، والخوف من أن يسيطر هذا الذكاء الصنعي على من صنعه وينهي هذه الحقبة الزمنية من أجل ولادات جديدة على الأرض بعد تدمير كل شيء، وإذا لم يرافق هذه الثورات، وأهمها ثورة الذكاء الصنعي، تطوير للعقل البشري باتجاه سعادة الإنسانية واستعادة القيم والأخلاق التي تأسس عليها الإنسان، فإن المعضلات والإشكاليات ستتنامى أكثر، وستنتشر الاضطرابات كانتشار النار في الهشيم، كل هذا يستدعي عملاً عقلياً كبيراً، وإذا كنا نحن كشعب نقع في مركز تواصل العالم مع بعضه، وقد تحملنا ،ومازلنا نتحمل، الكثير من آلام التصارع العقلي العالمي المتجلي خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، وصراعه الظاهر على مركزها "سورية" التي عاث فيها المرتزقة والإرهابيون فساداً مروعاً قاومته الدولة، ومازالت، ضمن ظروف صعبة وقاسية، وقد خلقت هذه الحالة تناقضاً فادحاً بين التقدم العلمي والاجتماعي وبين التدمير الممنهج لهذا التقدم، من خلال خلق نزاعات للارتزاق والإرهاب، مع الحاجة الإنسانية للأمن والعمل بشكل أخلاقي وشريف، فإذا كنا عقدة وصل العالم، ونرى نتائج ثوراته العلمية والتكنولوجية في الشرق أو في الغرب، فكيف يمكننا استثمار هذه الرؤى والتخلص مما نحن فيه.
من وجهة نظري أن التنافس لم يعد شريفاً ولا أخلاقياً، وأعتقد أن سوادكم سيؤيد الفكرة أو يتوافق معها والسائد يرينا حجم الخلل، ولا يكفي إعادة ترتيب العلاقات بيننا وبين هذا أو ذاك؛ بل البحث عن الكيفية التي نحول بها هذا الترتيب إلى فوائد عملية تنتج مجتمعاً أخلاقياً متفوقاً بالأخلاق على كل أزماته، ومعها يؤمن بالأداء الجيد الذي يعزز الهوية ويرسخ الانتماء، فالإفادة من التنافس البشري، الذي غدا مركّباً، يكون بتحويله إلى تنافس خلاق، إنساني الحضور والأبعاد، وذلك بعد ترتيب علاقاتنا وتمتين بنائنا الداخلي الباحث عن الأمان الذي يبدأ بأمان الفرد وينتهي بأمن الدولة.
د. نبيل طعمة