التنوُّع والتنويع
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ١٣ أبريل ٢٠٢٢
رؤية أطرحها بتعقل منظّم، فحرية الفكر لا ينبغي أن تعطي إلا الواقعية والمؤسسين منها للغد، لأنهم قادرون على بلسمة الجراح وتهذيب الحياة إلى حدٍّ ما. وما أخطّه تفرضه دائماً التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في حالة الاستقرار وعند نشوء الأزمات أو توقّع حدوثها، وأيا كان نوعها حرصاً على التنمية أو زيادة تألق في المجتمع أو زيادة نجاح في السياسة والإدارة والإنتاج، وأيضاً بهدف رفع نسب المساواة والتنافس، ومن أجل مكافحة الشيخوخة والترهّل في مفاصل حياة الدولة وتحسن كفاءة المؤسسات ذات البناء الشاقولي ودعم الانتشار الأفقي الكبير والمتوسط والصغير، لذلك إحداث التنوّع في صنوف الحياة مسؤولية الفكر السياسي العميق لأي دولة تسير على سبل النجاح، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة لإستراتيجية تشكيل الحياة فيها، حيث تظهر من خلالها قيمها وجمالها وقوتها، وتتجلى الدول التي ترسي قواعد التنوّع وتعزز بيئة العمل، وتسمح بالابتكار، وتنمو بتسارع نوعي، وتتفوق في صنوف أدائها ومنتجها، وهنا أشير إلى أنه لا يمكن إرساء مروحة التنوّع وإنتاج الطاقات والقدرات واختيار المواهب بين عشية وضحاها، لذلك على القيادات المؤمنة حقيقة بوطنها أن تلتزم بالتواصل المستمر مع قواعدها واستقطاب المميزين وذوي الكفاءة في كل مجال، وبمعنى أدق يجب أن تتماشى إستراتيجية الاختيار للأماكن العملية والنظرية مع مبادئ الحاجة والتنوّع والإنصاف والإدماج الأكثر شمولية، فالاستثمار في المواهب المستقبلية يجب أن يكون شاملاً وحاسماً من القيادات المسؤولة بعد أن يتم وضع المعايير والأهداف لما يراد الوصول إليه أولاً، والاستقرار عليه ثانياً.
ومن خلال تأملنا بالسياق التاريخي نجد أنه تحرك بالتنوع مع ظهور الأجناس، وفي كل جنس ذكر أو أنثى، وبشكل خاص إن الجنس الإنساني أظهر إبداع الفكرة الإنسانية الأولى، التي بدأت مع الحياة مدركة الطبع البشري فيها، فأحدثت التنوّع مباشرة وقادته بدقة، واستثمرت في فكره وحركته ونشاطه ودأبه، ومنه استكملت رسم معالم الحياة في الروحي، فأوجدت الأديان لغاية التنافس الإنساني، لا من أجل إقصاء بعضها، والتنافس على جودة الإنسان بقصد التخفيف قدر الإمكان من شهواته ونزواته وعلى التنوّع الاقتصادي، فهذا مخترع، وذاك منتج، والآخر تاجر، وهذا مزارع، والآخر صياد، وعلى التسلسل الإداري والقيادي تعددت الآلهة والرسل والمريدون، وعلى التنوع الزراعي، فالبستان من اسمه يشير إلى تنوّع مزروعاته، ولا يمكن أن يحمل هذا الاسم إلا بوجود العديد من منتجاته المختلفة، فإذا ضعف أو فُقد فيه نوعٌ قويٌّ آخر عوضه، بينما الكرم نوع واحد، فإذا أصابه مرض انتهى، وتعويضه ليس بالأمر السهل، وإذا نجح فإن تكاليفه باهظة جداً.
إذاً النجاح لدى المجتمعات والشعوب والأمم يكون بخلق إستراتيجية التوازن الذي يبدأ من داخل الأسرة، ويظهر في المجتمع على أنه شراكة أساسها تكافؤ الفرص والتنافسية والتكامل، وهذا ما يظهر واقعية الاستعداد للمستقبل، وهذا يحتاج إلى تطوير في التشريعات التي تحدث التوازن وسياسات خلاقة تدعم المبادرات الكفيلة بإدماج ما يملكه المجتمع من تنوّع في الحياة العامة، فلا يمكن للنوع الواحد أن يكون دائماً على صواب، كما أنه لا يمكن له العمل دون الآخر ومساعدته، فالحياة وكما أسلفت قامت على التنوّع، واحتياج الآخر ضرورة وليست ترفاً، وتعزيزه يحقق نتائج إيجابية تزيد من قوة المجتمع وهيبته وحضوره، أما الفردية واللون الواحد فيؤديان إلى تباطؤ الحياة والتقاعس في أداء المهام والواجبات.
من هذا الذي سرت إليه أجد أن المسائل التي تعيشها مجتمعاتنا أكثر من مهمة، وهي بحاجة للانتباه، وتحتاج إلى التوقف عندها أو إعادة النظر فيها، أو على الأقل أن تدعم المنتج، بما يتوافق مع منطق البناء السليم ومع الحقائق التي يحتاجها الواقع، والمساحات الآن أكثر من متاحة لإعادة دمج مجتمعنا على أسس سليمة وواضحة، وحياة مجتمعنا لم تعد تحتمل إعادة الامتحان أو الانتظار، والعالم يهمّه فشلنا الدائم، وينبهر أمام إنجازاتنا.
التنوّع والتنويع يحسّنان الجودة الإنسانية بشكل خاص، ويخفّفان من الآثام الخفيفة والخطيرة؛ آثام الأفكار الأخلاقية والدينية والماضوية، ويؤديان إلى الإبداع المتجدد، بل إلى الإتيان بالجديد الإبداعي، ويظهران مضامينه، ويخلقان آفاقاً للتطوير لا حدود لها، وهذا يحتاج إلى قرارات حاسمة، تتخذ في عمق السياسة، وهي لا تكمن في عمقها وتقوقعها، بل في زمانها ومكانها، وتكوّن رؤية إستراتيجية، تخرج المجتمعات من أزماتها، وتفتح الأبواب للجميع، كي يدخلوا منها محدثين ثورات فكرية وثقافية واقتصادية، تستفيد منها السياسة المديرة لها وتغنيها.
د. نبيل طعمة