الحبيب بورقيبة – سنوات الصبا من البراءة الى القلق
تحليل وآراء
الاثنين، ٢٤ يناير ٢٠١١
بقلم : الصافي سعيد
ولد الصبي الحبيب ، مع بزوغ القرن العشرين. و إذ سمع صراخ الحبيب و هو يرتطم بالأرض معلنا عن قدومه وسط الخجل و الانكسار ، فإن القرن العشرين قد كشف هو الآخر عن وجهه البشع من خلال تلك المجاعات التي ضربت الكرة الأرضية من الصين إلى إفريقيا ، و تلك المجازر و المذابح التي اقترفت في حق شعوب كثيرة من روسيا إلى أرمينيا ، و من الجزائر إلى الهند. سار القرن العشرون على جثث كثيرة و هو يتغذى بالمجازر و الخيانات و الدناءة ، باحثا عن المجد و القوة ، و متخطيا الأرض و االفضاء و الزمن و الأبعاد. أما الحبيب الصغير ، فقد راح يحدق في الأفق و هو لا يعرف إلى أين ستقوده خطواته الصغيرة.
كان ثامن إخوته. و كان أصغرهم. و إذ جاء إلى الحياة حين بلغ أبوه من العمر أرذله ، فقد قوبل بتململ واضح. و قد ظن الناس أن أخته التي ولدت قبل سبع سنوات ، هي خاتمة العنقود ، فإذا بالوالدة " فطومة " بنت خفشة الأربعنية تحبل به. و لأن فطومة قد أصبحت في مصاف الجدات لأن البنات كن يتزوجن في سن مبكرة ، و هي التي يبلغ ابنها لا يسمع صياحها بدافع الخجل و الحياء.
حين عرف الأخ الأكبر محمد أن المولود ذكر و ليس أنثى ، قال بصوت عال و خشن و هو يهنئ نفسه : " الحمد لله ، لم يكن المولود أنثى ". و حين سمع الصبي الحبيب تلك الرواية ، لاذ بصمت عميق ، ما لبث أن تطور إلى مساءلة في سنوات النضج عن وضعية المرأة عموما. لما حدثته فطومة لاحقا " بأن الغيرة و الأحقاد كانت أحشاء و قلوب زوجات أعمامه ، لأنها قد أكثرت من إنجاب الذكور أدرك الصبي الحبيب مبكرا أن الإناث محتقرات !.
تطور الخصام بين السلفات. لم تكن والدة الحبيب " فطومة " امرأة مطيعة أو لينة رغم مرضها. فأم لذكور غالبا ما تكون صاحبة سطوة على زوجها. و لذلك فقد قررت أن ترحل من بيت الجد الذي أصبح مقرا لشجار متواصل طوال النهار. و حين وضعت زوجة العم محمد كمية كبيرة من الملح في إناء فطومة ثم عمدت زوجة العم حسن إلى وضع كمية من الرماد في قصعة الكسكسي ، كان على الأب علي و قبل أن يأتي الطفل الحبيب إلى الحياة ، أن يهرب بأبنائه و زوجته إلى دار أخرى خوفا من الفضائح.
كانت " حومة الطرابلسية " التي توجد بها دار جد الحبيب ، الحاج محمد بن علي الأشقر ، عبارة عن مجموعة أزقة متشابكة و مزدحمة بالوافدين و النازحين إلى قرية المنستير منذ أكثر من قرن. لم يولد الصبي الحبيب كبقية أخوته في تلك الدار التي تجمع أبناء الحاج محمد و زوجاتهم ، و إنما ولد بدار أخرى في حي " القرايعية " خارج حومة " الطرابلسية " بعد أن اكتراها والده مفضلا الانسحاب من الشجار و الخصومات. و سوف تبقى " دار الجد " الحاج بورقيبة الأشقر حظيرة للبقر و البهائم بعد أن تركها الجميع تباعا ، إلى أن تتحول إلى مزار بعد أن أصبح الحبيب رئيسا للبلاد التونسية.
كانت هذه الدار ، و كما وقع ترميمها فسيحة و بها ثلاث غرف ، الأولى على اليسار لعم الحبيب سي محمد و هو رجل يكبر علي بحوالي 20 عاما. و قد كان كفيفا و لم ينجب إلا ولدا معتوها. و الثانية تقع في صدر الدار و كان يسكنها عمه سي حسن الذي لم ينجب إلا ثلاث بنات. أما الغرفة التي تقع على اليمين و هي الغرفة التي كان أحد جدرانها مطلا على الشارع فقد شهدت ميلاد أخوة الحبيب جميعا.
و إذ يصعب تحديد السنة التي ولد فيها الحبيب على وجه الدقة ، فإن التاريخ الذي اختاره بورقيبة قد حدد سنة 1903. بيد أن العودة إلى أوراقه المدرسية و تاريخ حصوله على الشهادة الإبتدائية قد يرجح أنه ولد في العام 1901 . و ليس ثمة أن الحبيب قد ولد في الصيف شهر آب / أغسطس ، إلا حبه لبرج الأسد ، إذ اختار أن يسجل نفسه تحت مواليد ذلك البرج. و حين جاء الحبيب إلى الحياة كان أصغر إخوته فتاة تبلغ من العمر حوالي 7 سنوات ، و هذا يعني أن جميعهم ولدوا قبل حلول القرن العشرين. و لو افترضنا أن والده قد تزوج في العام 1880 ، أي قبل بدء الحماية بعام واحد و أن أخاه الأكبر محمد يكبره بـ 21 عاما كما يقول بورقيبة نفسه ، فالأرجح أن يكون الحبيب قد وضع قدميه على الأرض في العام 1901 و ليس في العام 1903. و حين نضيف أن تاريخ حصوله على الشهادة الإبتدائية هو العام 1913 ، يكون من المؤكد أن الولادة حدثت في العام 1901 بحيث إنه حصل على الشهادة و هو في سن الثانية عشرة. و هو عمر مناسب أكثر من عمر الـ 10 سنين ، زيادة على أن رقم 21 سيكون رقما سحريا في حياة هذا الرجل كما سنرى لاحقا!.
***
لم يعرف الصبي الحبيب لا حارات الحومة الطرابلسية و لا صبيتها. فقد ولد و تربي بعيدا عنها ثم ما لبث أن غادر المنستير بصحبة أخيه الأكبر ليتابع دراسته الابتدائية. و حين كبر أدرك أنه نزع بالقوة من تلك الأجواء التي عادت تخيم عليه كحنين جارف جعله سجينا لذكريات ملونة مرة و غائمة أو مشوشة مرة أخرى. كانت تلك الحومة يسكنها القادمون مع جيش الباي حمودة باشا الذي سافر عبر ليبيا نحو تركيا للمشاركة في حرب القرم ، كذلك الهاربون من عسف حكم عائلة القرامنللي على إيالة طرابلس الغرب ، و الباحثون عن عمل موسمي في حقول الزيتون بالساحل و الناجون من المذابح و المجاعات ، بالإضافة إلى بعض العائلات اليهودية الخائفة و الباحثة عن الأمن.
و سيظل بورقيبة مثقلا إلى سن متقدمة بهمّ البحث عن جذوره البعيدة. سوف لن يتنكر أبدا لجذوره الليبية و هو ما ردده مرارا و تكرارا في تونس و طرابلس ، من أن لعائلته قدمت من ليبيا ، بل هو سيقبض على نفسه و هو مورط بالبحث عن عائلته في مصراتة ، حين كان يتابع رحلته إلى المشرق في الأربعينيات ، و لكن ما لم يؤكده أحد بما في ذلك بورقيبة نفسه ، هو ما إذا كانت تلك العائلة ( عائلة بورقيبة ، هي عائلة ليبية – مصراتية أم هي عائلة وافدة على مصراتة في حدود الربع الأول من القرن التاسع عشر ).
تتيح مقارنة الأسماء هنا التأكيد أن اسم بورقيبة مركب على النحو الذي تركب به بعض أسماء العائلات الليبية مثل بورجيلة و بوعوينة و بوسنينة و و بوكريشة و بوذينة و بورويس و بوخشيم ، و هي صيغ تصغيرية. هذه الألقاب بهذه الصيغة التصغيرية غالبا ما تطلق على الوافدين ، لا على الأهالي ، ذلك أن الذي لا يعرف اسم جده أو اسم عائلته ، يصبح ملقبا بما هو بارز منه عضويا أو حتى سلوكيا. فالذي ليملك كرشا صغيرا يصبح بوكريشة ، و الذي يملك رجلا صغيرة ، يعرف تحت اسم بورجيلة. و إذا كانت رقبة أحدهم صغيرة أو قصيرة يصبح حاملا لقب أبو رقيبة.
يأخذنا ذلك التأويل المتارن إلى أن عائلة بورقيبة وافدة على مصراتة التي ظلت إلى منتصف القرن العشرين من أهم موانئ التجارة و الاختلاط البشري. و ما يؤكد ذلك أن عائلة بورقيبة هذه قد انتشرت بعد ذلك في طرابلس ثم في جربة ، حين كانت تحت حكم القرامنللي و منها إلى الساحل في المنستير. و إذ يبدو مسجد بورقيبة بطرابلس كشاهد على أن أحد أفراد هذه العائلة قد مر من هناك ، فإن عائلة بورقيبة بجزيرة جربة تبدو هي الأكبر حجما و عددا من عائلة بورقيبة التي سكنت المنستير مما يرجح خط رحلتها ( مصراتة – طرابلس – جربة – المنستير ). و لكن إذا لم تكن عائلة بورقيبة من أهالي مصراتة القدماء ، فمن أين تكون قد وفدت ؟.
تذهب بعض القراءات بعيدا فتؤكد أن جذور هذه العائلة ألبانية ( 1 ). فيما يؤكد آخرون أنها من أصل يوناني من جزيرة سالونيك ( 2 ). إن بورقيبة نفسه الذي لطالما تغنى بعيونه الزرق " التي لا يمكن أن تنتمي إلى عيون العرب السوداء ( 3 ) " كثيرا ما سوف يتساءل ما إذا كان من أصل عربي أو من أصل أوروبي. و لا تتوقف الأسئلة حول أصل هذا الرجل صاحب العيون الزرق ، بل ستشمل كذلك ديانة هذا الرجل العلماني الجاف الذي أثار كثيرا من المتاعب لرجال الدين الإسلامي حين أصبح رئيسا.
ثمة من يعتقد أن اسم بورقيبة يعني " السجين ( 4 ) " ، و في هذه الحالة سيكون من الأرجح أن يكون المعنى هو الرجل الذي عتق رقبته. و على ذلك الأساس ، فإن التفسير يقوم على أن الجد بورقيبة ، قد عتق عن طريق الهرب عبر البحر إلى مصراتة ، أي إلى ديار الإسلام!.
ثمة كذلك من يعتقد أن بورقيبة من سالونيك ( * ) و من أصل يهودي. و قد اضطر إلى اعتناق الإسلام حين هرب إلى مصراتة ، الأمر الذي يجعل الافتراض الذي يقول أن جامع طرابلس المسمى بجامع بورقيبة قد بني على زاوية قديمة كانت تعرف بزاوية بورقيبة تنعما على روح الشيخ بورقيبة الذي اعتنق الإسلام في سن متقدمة.
و ستظل " يهودية بورقيبة " من الأشياء الغامضة تماما مثل غموض أصله اليوناني أو الألباني ، كذلك مثل غموض تاريخ قدوم جده الأول إلى مصراتة ، و قدوم جده الأخير إلى تونس.
و ثمة افتراض عام من شأنه أن يضع حدا لذلك الغموض و التأويل المتشابك ، هو أن بورقيبة من عائلة تنتمي إلى الكون العثماني سواء كان من سالونيك أو من ألبانيا ، و أنه ينتمي إلى عائلة مسلمة منذ أصبحت نزيلة ديار الإسلام على شاطئ مصراتة. كما أن جده الحاج محمد بن علي الأشقر قد قدم إلى المنستير في حدود عام 1855 أي حين كان عمر والد بورقيبة علي 5 سنوات. فهذا الأب الذي توفي في العام 1926 و عمره يناهز الـ 76 سنة ، و كان قد تزوج و عمره نحو 30 سنة في العام 1880 ، لم يولد في المنستير ، بل من المرجح أن يكون قد ولد إما في جربة قبل أن ينتقل جده إلى المنستير أو في مصراتة.
كان الحاج محمد بورقيبة الذي يلقب بالأشقر قد استقر في حومة الطرابلسية ، مثل الذين سبقوه إليها في موجات متعددة من الهجرة. لا أحد يعرف متى حل الحاج بورقيبة الأشقر ( 5 ) بتلك الحومة ، و لكن الحكايات التي نسجت بعد أن أصبح حفيده رئيسا للبلاد التونسية تبدو مكتنزة بكرم هذا الرجل و شجاعته و غناه. و تبدأ تلك الحكايات في العام 1795 ، حين قرر الحاج الهجرة من مصراتة على إثر قلاقل اجتاحت ولايات الإمبراطورية العثمانية. نزل في البداية في جربة مع أبنائه و عبيده الأربعين و حيواناته و كذلك طبيبه الخاص !. و بعد سنين طويلة انتقل إلى المنستير . و إذ تتكرر الأسماء نفسها في عائلة بورقيبة ، فإن الحقائق كثيرا ما تتداخل ، حتى لا نعود نعرف متى حل بالضبط بالمنستير ، و من الذي حل بالمنستير من جدود الحبيب ، هل هو الحاج محمد الأول الملقب بالكبير أو الحاج محمد الثاني الملقب بالأشقر ؟ كما لا نعرف ما إذا كان الحاج محمد واحدا فقط يلقب مرة بالأشقر و أخرى بالكبير ، أو اثنين ؟ و لكن هناك واقعة مهمة تثبت أن والد الحبيب حين انفجرت ثورة علي بن غذاهم في وجه حكم الحسينيين في العام 1864 ( 6 ) ، كان يبلغ من العمر 14 سنة فقط. أثناء تلك الانتفاضة ، وضعت أملاك الحاج بورقيبة تحت مراقبة جند الجنرال زروق ، كما وضع الحاج محمد في السجن و كان على العائلة أن تجمع ما تملك من ذهب و فضة لتدفعها كفدية لإطلاق سراح الحاج محمد. تلك الفدية سيحملها إلى إدارة الجند المراهق علي والد الحبيب. و حين وقف المراهق مضطربا أمام أحد مساعدي الجنرال زروق ، استبقاه ليقدم نفسه ( 7 ). و في الحين لمح الجنرال عيون المراهق علي الزرق ، فقال له مداعبا : " أنت من أبناء الباب العالي ، فلماذا لا تعمل في الجندية ؟". ثم قام الجنرال ليأذن بإطلاق سراح الأب الحاج محمد. عاد الحاج محمد إلى بيته لينام من التعب ، فإذا بالنوم يأخذه إلى القبر ، أما الابن علي ، فقد أعجبته الفكرة و أصبح من جند الجنرال زروق. أمضى " علي " حوالي 19 عاما في خدمة الباي، و حين ترك تلك الخدمة كان عمره نحو 33 سنة فقط حصل على رتبة رقيب مع خطة تقاعدية قدرت بـ 11 فرنك كل ثلاثة أشهر.
كانت الحماية الفرنسية قد انتصبت على تونس منذ سنتين ، حين غادر الرقيب علي الخدمة العسكرية. كان يبلغ من العمر نحو 33 سنة ، و كان قد تزوج من فطومة بنت خفشة قبل عام فقط من اتفاق قصر السعيد في العام 1881 الذي شرع لتلك الحماية الفرنسية.
و بعملية حسابية نجد أن الوالد علي قد ولد في العام 1850 إذ كان قد توفي في العام 1926 عن عمر يناهز 1976 سنة. و هو ما يؤكد أن هذا الوالد علي قد ولد إما في جربة قبل وصول الحاج محمد إلى المنستير في العام 1955 أو ولد في مصراتة.
لم تعد عائلة الحاج بورقيبة غنية ، أو بالأحرى لم تكن كذلك. فالدار التي كان يسكنها الأولاد ، علي و حسن و محمد لا تحتوي على أكثر من ثلاث غرف. خرجت الأخت آمنة لتتزوج أحمد سقا ثم غادرت الأخت عيشوشة لتتزوج من الحاج يوسف زوتين. و هذان الصهران ينتميان إلى أعيان البلدة. أما الأخوة الذكور فقد اقتسموا البيت ، حيث سيعيش كل واحد منهم مع زوجته و بناته في غرفة ، إلى حين يغادر الأخ علي بيت الوالد إلى دار أخرى خارج حومة الطرابلسية ، قرب القرايعية حيث سيلد الابن الحبيب.
كانت أم الحبيب فطومة ابنة للسيدة خدوجة مزالي. و هذه الأخيرة ، التي تنحدر من " سوس المغرب " ( بربر ) غنية إلى حد يضعها في صف أعيان المنستير. و هي التي رتبت زواج بنتها بعلي والد الحبيب ، كما هي التي ساعدت صهرها – علي – على اكتراء منزل آخر تنتقل إليه ابنتها و أحفادها هربا من الشجار مع السلفات. و إذا عرفنا الآن أن جد الحبيب قادم من مصراتة ( ليبيا ) و يرمي بجذوره البعيدة إلى سالونيك أو ألبانيا ، و أن جدة الحبيب خدوجة مزالي قادمة من بلاد السوس البربرية في المغرب ، يصبح آنذاك من السهل مغامرة الاستنتاج أن الحبيب لم يكن من أصول تونسية لا من جهة الأب و لا من جهة الأم. أما أصوله العربية فستظل في حاجة إلى تأكيد.
إذا كانت الأم فطومة قد ورثت من آل خفشة السمرة و من آل مزالي المثابرة و القوة و الجاه ، و ورث الأب عن جده الأشقر عيونه الزرق و قامته الممشوقة ، فإن الحبيب ، و هو الابن الأخير بعد محمد و أحمد و محمد و محمود و نجية و عايشة ( عيشوشة ) و يونس ( الذي توفي بعد ثلاثة أشهر فقط من ولادته ) سوف يرث من والده زرقة العيون و بياض البشرة و من والدته قوة التصميم و المثابرة. أما قامته القصيرة ( متر و 64 سنتمترا ) و التي كثيرا ما كانت محل تهكم لدى أخوته الكبار كقولهم : " البيضة الفاسدة هي دائما البيضة الصغيرة " أو " من قرب إلى الأرض كثر شره " ، أو " حبة العنقود الأخيرة غالبا ما تكون صغيرة و صفراء " ، فسوف تجعل منه رجلا قلقا و طموحا إلى أبعد حد. و إلى درجة أنه سيكتشف مبكرا أن القامة تزداد طولا كلما صعد صاحبها إلى الفوق ، فوق المنابر أو فوق الأعناق.
و بالرغم من أن الابن سيتربى على احتقار الثكنات و العسكر ، إلا أن والده كان من عساكر الباي. و سوف نعرف أنه ربما الـ 19 سنة التي قضاها والده في خدمة الباي و هو يحمل " البردعة " على ظهره هي التي شحنته بذلك العداء الصارخ لكل ما هو عسكري ، بيد أن والده حين تقدم به العمر لم يجد ما يسد حاجاته غير تلك " الخطة التقاعدية " التي أصبح بمقتضاها يتلقى منحة كل ثلاثة أشهر ، بعد أن عزل من منصب شيخ حومة الطرابلسية. إن البردعة التي كان يحملها الوالد هي التي أرهبت الحبيب و جعلته معاديا للعسكر ، أما السيف الذي ورثه أبوه الرقيب فسوف يبقى رمزا للمجد في نظر الحبيب.
كان الأب علي في البداية قد دخل كجندي عادي في صفوف التريس ( المشاة ) ثم أصبح فيما بعد رقيبا تحت أمرة يوزباشي المنطقة. و سوف لن يتذكر الابن الحبيب من خدمة والده ، سوى حكايات بسيطة يسمعها من الوالد الذي غادر جند الباي قبل مجيئه إلى الحياة بحوالي 21 سنة. كما سوف لن يرث من مجد أبيه سوى ذلك السيف المعلق على جدار السقيفة " بدار القويج " حيث ولد الحبيب ، كرمز للمثابرة و الشرف العائلي و البأس إذ كثيرا ما أدخل الرعب في قلب الصبي ، حين كان يحاول النهوض برجولته لإخراجها من معتقل الدار و الزقاق الضيق و المراهقة المشاغبة. و لأن الأب قد أصبح شيخا بعمر يناهز الـ 58 عاما و بصحة عليلة و هو على خوف كبير من ضياع آخر العنقود ، فقد اختار أن يرسل ذلك الصبي الحبيب بسنواته الست إلى أخيه محمد الذي كان يسكن تونس العاصمة و يعمل كمترجم في الإدارة الفرنسية. هناك سيدخل الطفل الحبيب عالم الخشونة مبكرا. سيعرف حرمان الأم و قسوة زوج الأخ ، و صرامة الأخ الأكبر. سيعرف حرية كانت أقرب إلى الإهمال و الحرمان. كما سيتوزع نهاره بين المدرسة و الشوارع محدقا في بنايات ضخمة و أناس جدد ناشطين. كل ذلك سيغرس في الصبي الحبيب ميزة التأمل الجارح و الوعي المقارن. و إذ كثيرا ما عوقب من قبل زوجة أخيه التي كانت تنظر إليه كولد شقي و نزق و وسخ ، فإنه لطالما أحزنه الأمر و هو يقارن نفسه بأقرانه تلاميذ الصادقية، فلا يجد في قدمه غير حذاء مثقوب ، و على قامته القصيرة و النحيفة لباسا رثا يفي بداخله حبا فاجعا لأمه و كراهية مقيتة لتلك المرأة القاسية " التي تسكن بيت أخيه ( 8 ) " ، و بعض الحقد على زملاء له أكثروا من التفاخر و الفخفخة.
مضى الآن أكثر من ربع قرن على نظام الحماية الفرنسية : خطا الصبي الحبيب أولى خطواته في تونس العاصمة نحو الدرس و الاجتهاد و هو مثقل بنصيحة الوالد " عليك بالاجتهاد حتى لا تحمل البردعة " ، و إذ سأله و هو يودعه : و ما البردعة يا أبي ؟ أجابه : " إنها الكساء الذي يوضع على ظهر الحمار. و قد حملها أبوك على كتفيه سنين طويلة أثناء تنقله مع جيش الباي من منطقة إلى أخرى ( 9 ) ". اجتاحت تونس موجة من الغضب دفعت بها أمواج الساحل الشرقي ، حين قذفت بأخبار مظاهرات القاهرة ضد الاحتلال البريطاني ، و لم يتأخر ذلك الغضب حتى كشف عن مجموعة من " الشباب " تحت قيادة علي باش حانبة ، و قد تحمسوا لمقاومة الحماية. و خلف ذلك القلق الكثيف ، خلف محمد الناصر باي ابن عمه الذي كثيرا ما وصف بالباي الشهم ( محمد الهادي باي ).
و لأن " الناصر باي " قد برز كرجل قوي داخل قصر قد أصبح مثقلا بالذنوب و محاصرا بالكراهية و كذلك بالشروط المذلة ، فقد افتتح عهده بتحد سيسجل في تاريخه كنقطة مضيئة. لقد تم إصدار مجلة " العقود و الالتزامات " التي اعتبرت أول عهد للقانون المدني التونسي الحديث. بعد ذلك أدخل هذا الباي لأول مرة نوابا عربا تونسيين في مجلس " الشورى " المشرف على توزيع ميزانية الحكومة و التي كانت فيما مضى تحت قبضة الفرنسيين المطلقة ، ثم أحدث ما أصبح يعرف بقانون " الحالة المدنية " لتسجيل الولادات و الوفيات بالمجلس البلدي. و هذا كله ما أعطى للأهالي بعض الفرص للظهور في معظم قطاعات الحياة.
كانت مدرسة الصادقية من إنجازات " الصادق باي " المشعة و التي ستخفف عنه ذنوب توقيعه على معاهدة الحماية. و قد أقيم ذلك البناء في العام 1875 ، أي قبل انتصاب الحماية بنحو ست سنوات بأمر من " الصادق باي " و تحت إشراف المصلح " خير الدين باشا ". و إذ أطل عليها الصبي المنستيري الحبيب في العام 1907 ( 10 ) ، فقد شاعت شهرتها على نحو أقبل فيه أعيان البورجوازية العقارية و العسكرية و الزراعية ، يتنافسون على إرسال أبنائهم إليها. كان الجيل الذي أصبح يتزعم منظمة " الشباب التونسي " هو الجيل الأول لتلك المدرسة. فعلي باش حانبة و علي بوشوشة و بشير صفر و محمد الأصرم ، هم رموز بداية المقاومة ، كذلك هم أبناء رموز الأرستقراطية التونسية الذين أعدوا خصيصا لخدمة العائلة الحسينية.
إذا كانت الصادقية قد بدأت تعطي ثمارها لتحديث المجتمع في ذلك الوقت ، فإن مدرسة الخلدونية التي تأسست في العام 1896 ، قد جاءت لتحديث تعليم جامعة الزيتونة. كانت الفكرة قد ولدت في أحضان مجموعة من المثقفين تعرفوا إلى الشيخ " محمد عبده " لدى زيارته لتونس ( 11 ). و لأن الخلدونية قد أصبحت هي أيضا منارة للعلوم الحديثة ، فقد تحمس المحامي باش حانبة و الصحافي علي بوشوشة نحو بعث جمعية قدماء الصادقية. تلك الجمعية ستكون بمثابة المصهر الثقافي الجديد لتونس العاصمة و أبناء أحياء باب الجديد و باب سويقة و الحلفاوين و باب الفلة. لم تكن السياسة بعيدة عن هموم أولئك الشباب الطازج و المتعطش للمعرفة و الحرية. و إذ أعجب المحامي باش حانبة و رفاقه بأفكار محمد عبده المصري و أفكار " تركيا الفتاة " ، فقد اختار لتلك الجمعية التي تطورت فأصبحت حزبا سياسيا ، " تونس الفتاة " أو " الشباب التونسي ". و منذ كانون الثاني / يناير 1907 ، سيصدر االشباب التونسي جريدة عرفت " بالتونسي " ناطقة بلسانهم و حاملة لمطالب إصلاحية تذهب إلى حد المطالبة ببرلمان تونسي.
كان الطفل الحبيب قد اندمج في الصادقية دون أن ينسى أبدا أنه قادم من الضواحي. و لذلك فقد تعلم الحذر مبكرا إلى جانب التحدي. ظل يلبس الجبة و الشاشية الحمراء إلى صف الشهادة الإبتدائية ، و لطالما أعجب بالسراويل الإفرنجية و الأحذية اللماعة التي كان يرتديها بعض أقرانه من أبناء الموسرين ، لكنه لم يجد لا الشجاعة و لا الحماسة لكي يطلب من أخيه محمد شراء بعض الملابس الجديدة. كانت المرأة التي تعمل ببيت أخيه الكائن بتربة الباي – قرب مقبرة البايات – تدعى " ضاوية ". لم تكن " بلدية " أي من أصيلي تونس المدينة ، و لكنها تعلمت كل شيء لكي تخفي أصولها الريفية جيدا. هذه المرأة ستغرق الطفل الحبيب في الشعور بالعار و حتى باليتم. و لأنه لا يجد من يشكو إليه غطرسة تلك المرأة التي جعلت منه خادما صغيرا ، و قد ترك أمه و والده في المنستير ، فقد دفن رأسه في الكتب و راح يهيئ نفسه للنجاح. لم يكن ذكيا جدا ، و لكن كان مجتهدا. كذلك لم يكن كسولا في دروسه و لكنه كان مشاغبا. ففي إحدى زيارات والده " الشيخ علي " للمدرسة ، انتحى به المقيم العام للمدرسة ليقول له : " إن الحبيب مهتم بدروسه جديا ، لكنه من النوع المشاغب رغم ما يبدو عليه من إنطوائية ( 12 ) ". لم يعلق الأب علي آنذاك على كلام ناظر المدرسة ، و لكن الابن الذي أصبح فيما بعد رئيسا قال و هو يروي عذاباته : " لقد فهمت منذ تلك اللحظة أن كل شيء قد يكون مسموحا إذا كنا ناجحين ( 13 )".
في الصيف ، كان الحبيب يترك بيت أخيه محمد المترجم ليذهب إلى المنستير. و هناك ينغمس في محيط مليء بالنساء. و بين أمه " فطومة " و جدته و أختيه عيشوشة و نجية سيتعلم الحبيب الطبخ الذي سيتقنه حين يصبح طالبا في باريس أو منفيا في بورج البوف أو حتى رئيسا في قصر قرطاج. كان صبيا شرها رغم نحافته ، و لطالما تلقى عدة توبيخات حين كان يقبض عليه و هو يمد يده في الخفاء لصحن البقلاوة أو و هو يختلي بقصعة الكسكسي المعدة للضيوف كأي قط جائع. و لكن أيام العطلة الصيفية سرعان ما تنتهي حين يرغمه أخوه محمد على مصاحبته و العودة به إلى تونس لحفظ القرآن في الكتاتيب.
كان الحبيب لم يبلغ بعد العاشرة حين أصبح بالقسم الرابع ابتدائي. في تلك السنة سيمر الحبيب بالصدفة أو بالعادة من طريق " باب منارة " ليشاهد الحادث الذي سيؤرخ لمقاومة الاستعمار الفرنسي. كانت أحياء القصبة تعج بالجنود الذين يضعون على رؤوسهم ما يشبه الشاشية التي يخرج من وسطها خيط طويل فينتهي بخيوط قصيرة متشابكة ذات شكل كروي تنزل إلى أسفل العنق. و سأل الصبي الحبيب عن تلك الحشود فقيل له : " إن حادثة مؤلمة وقعت في مقبرة الزلاج".
لقد كانت هذه المقبرة من أحباس العائلات التونسية المسلمة ، و لكن السلطات الفرنسية أرادت أن تضمها إلى البلدية و تنهي أمر الوقف الذي يقال إنه كان لأحد أعيان القيروان. و لأن التونسيين المسلمين قد رأوا في ذلك تدنيسا لمقدساتهم رافضين أن يدفن أموات المسيحيين إلى جانب الأموات الإسلاميين ، فقد عرضت المسألة للتحكيم. و لكن أثناء ذلك وقع صدام بين بعض الأهالي و بعض الأجانب الأمر الذي أدى إلى قتل بعض الإيطاليين ، و هو ما سوف يتطور إلى صدام مسلح مع الجنود الحارسين للمقبرة أدى إلى مقتل بعض التونسيين.
سال الدم على نحو أفزع الجميع. و إذ استمرت تفاعلات ذلك الصدام نحو سنة ، فقد لحق بها حادث آخر شارك في تشكيل ما يمكن أن يسمى بجنين الوعي القادم. ففي اللحظة التي ضغطت فيها المقصلة على أعناق المحكوم عليهم بالإعدام لمشاركتهم في انتفاضة الزلاج و فصلت رؤوسهم عن أجسادهم ، جاء قرار المقيم العام الفرنسي " لابتيت " بإبعاد قيادات " الشباب التونسي " إلى المنفى : علي باش حانبة و عبد العزيز الثعالبي و محمد نعمان تم نفيهم إلى مرسيليا. حسن القلاتي نفي إلى الجزائر. أما الصادق الزمرلي و الشاذلي درغوث فقد أبعدا إغلى تطاوين بالجنوب الفرنسي ، حيث تعتبر من مشمولات الحاكم الفرنسي العسكري.
سوف لن يهتم كثيرا التلميذ الحبيب بورقيبة إن توقف " الترامواي " عن السير ، لأنه قد تعود السير على قدميه الغارقتين في حذاء واسع و مثقوب. و لكن حادثة دوس طفل تونسي تحت عربات " ترامواي " يسوقه أحد الإيطاليين ، سيثير فتنة التساؤلات في رأسه. و قد أجابه أخوه محمد عن ذلك " بأن التونسيين يمتنعون عن ركوب الترامواي لأنهم يريدون معاقبة الإدارة الفرنسية ، و أن ذلك هو ما يسمى بالعصيان المدني". لقد كان أغلب سائقي هذه العربات من الإيطاليين أو التونسيين المتجنسين. فالجالية الإيطالية التي كانت تسكن في تونس كانت أكثر عددا من الجالية الفرنسية. و منذ ذلك الحادث ، أجمع سكان تونس الأهليون على مقاطعة عربات الترامواي إذ قالوا جميعا : " نمشي على أقدامنا أو نركب العربات التي تجرها الخيول و لا نمتطي هذه الآلة القاتلة ( 14 ) ". و فيما ظلت عربات الترامواي تسير فارغة بين القصبة و باب منارة و انتهاء بباب سويقة عبر باب الجديد ، امتلأت صدور السلطات الفرنسية بالغضب الذي انفجر عندما تم ترحيل قادة " الشباب الفرنسي " إلى المنفى.
تحسس الحبيب و هو مراهق صغير اتجاهه نحو المدرسة مرة اخرى و هو يشعر بفقدانه لدفء والدته. و إذ عرف أن المدينة التي يشقها صباحا و مساء قد أصبحت ساحة لاحتكاك الغرائز ، فقد تساءل طويلا عما يمكن أن يعيد تلك الغرائز إلى سكينتها ؟ لقد حلت الكراهية محلّ التسامح و غطت البشاعة ممارسات السلطات الفرنسية ، حين اتجهت إلى إطلاق النار على الأهالي في المقابر.
انتهى المقام بـ " علي باش حانبة " إلى اسطمنبول ليموت هناك. أما البشير صفر فسوف يتوفى بين أهله. فهذا الوطني الكبير الذي اشتغل بالتدريس في الخلدونية ، و عمل – كقائد – على مدينة سوسة ، فسوف يودع إلى مثواه الأخير بجنازة طويلة جدا أثارت أكثر الأحاسيس اضطراما ، في نفوس الأهالي ، و كادت أن تتحول إلى مذبحة بسبب تدخلات السلطات الفرنسية لتنظيمها. و إذ عارض الأهالي ذلك التدخل البشع ، رأى المراهق الحبيب بورقيبة والده يذرف الدمع على روح الفقيد " صفر " إلى حد ظن فيه بعض الناس أنه من أقارب الميت. تلك الجنازة و معها حادثة مقبرة الزلاج ، و حوادث مقاطعة الترامواي إلى جانب احتجاج الأهالي على اجتياح الطليان لطرابلس عام 1911 ، سوف تحفر علاماتها في لحم المراهق الحبيب بورقيبة. أما أسماء البشير صفر و باش حانبة و الثعالبي ، فسوف تكون علامات مضيئة على طريقه الطويل و الشاق.
و لم تنته جنازة الأستاذ بشير صفر ، حتى قامت جنازة الأم " فطومة ". و رغم أن المسافة بين تونس العاصمة و المنستير طويلة ، سيتمكن الحبيب من حضور مراسم الدفن و هو يبكي كما لم يبك أبدا. و حينما يدخل على جثمانها و هي مسجاة في إحدى الغرف و يقترب منها ليقبلها القبلة الأخيرة سيحس ، لأول مرة أن أجساد الميتين باردة ، الأمر الذي زعزع كيانه فيما بعد و جعله رغم تجاوزه الثمانين يبكي كالطفل و يرتجف كلما تذكر أمه أو وقف أمام قبرها إلى حد يشعر فيه المرء بالتلاشي.
لقد قاست الأم فطومة الكثير كبنات جيلها. كانت رضيعة عندما طلق والدها أحمد خفشة أمها خدوج مزالي لأسباب تافهة ، و هي أنها تكثر من الشخير حين تنام و أحيانا تقدم له الأكل باردا. و سوف تبقى الابنة فطومة بلا زواج إلى حين بلغت الـ 18 ، و هي سن متقدمة حسب عادات ذلك الزمن. و حين تقدم إليها الرقيب علي بن الحاج محمد بورقيبة العائد من الجندية بقليل من الأنفة و بسيف و مرتب تقاعدي ، قبلت به في الحين. و لم تكد هذه الأم أن تفرغ من الولادة و هي تشارف الخمسين حتى توفيت فتركت سبعة أبناء أصغرهم الحبيب البالغ من العمر نحو 12 سنة و زوجا شيخا قد أصبح مدمنا لعب الورق و حكايات عنترة بن شداد. فحين تصل القصة إلى وقوع عنترة في الأسر ، يدهم الشيخ علي نعاس ثقيل فيحمل أشلاءه و يعود إلى داره متوجعا على شبابه و أبنائه البعيدين و خصوصا ابنه الحبيب الذي كان لا يزال مراهقا طريا.
عاد ذلك المراهق إلى تونس و قد زرعت الفاجعة بداخله بذرة النضج. و لم تمض سنة حتى حصل على الشهادة الابتدائية. و لكن ماذا سيفعل به الأخوة بعد أن توفيت الأم و أشرف الأب على الشيخوخة الرذيلة ؟ أحدهم و هو محمد كان فظا معه و أحيانا كان يجنح إلى ضربه ضربا مبرحا ، قال : " ليذهب يتعلم صنعة يعيش منها ذات يوم ". الأخ الثاني و هو أحمد فكر في إرساله إلى المنستير ليبحث عن عمل و يساعد الوالد الشيخ. أما أخوه محمد فقد وقف إلى جانبه فاستدعاه إلى قرية " تالة" في وسط البلاد ليقضي معه وقتا ريثما تتدبر الأمور و ينتعش جسمه الذي راح السل ينهشه.
و في الحقيقة لا أحد من أخوته كان يريد للحبيب أن يواصل تعليمه ، باستثناء أخيه محمود الذي يعمل هو الآخر كمترجم بوزارة العدل. إن محمود الذي يكبره بنحو 15 سنة هو الذي سينتشل أخاه الحبيب من الضياع و يدفع به إلى التسجيل في معهد كارنو ، حيث سيدرس اللغة الفرنسية على يدي أساتذة مهرة و كذلك الرياضيات و التاريخ و بعض الخطوط العريضة للفلسفة الوضعية. و من ثمة سينغمس الحبيب في قراءات لهيغو و جان جاك روسو و برغسون. و بعد أن امتلأ رأسه بعدة أفكار و عدة أسماء و رموز ، سيبدأ المراهق الحبيب في الكشف شيئا فشيئا عن نضج بالغ الحساسية.
الهوامش :
1 – يذكر كتاب صوفي بسيس ( سهير بلحسن ) في جزئه الأول عن بورقيبة منشورات جون أفريك عام 1988 أن بورقيبة تعني – السجين – باللغة الألبانية. لكنها لا تذكر أكثر من ذلك.
2 – يعتقد أحد المثقفين الليبيين أن عائلة بورقيبة أصلها من سالونيك و هو ينقل ذلك عن حكايات توارثتها عائلات مصراتة. و قد تحدث ( المؤلف ) في ذلك مع الدكتور علي فهيم خشيم االذي هو على دراية واسعة بالألقاب و الأسماء. و قد أكد أن عائلة بورقيبة هي عائلة مصراتية ، لكنه لا يستطيع أن يؤكد ما إذا كانت أصيلة ليبيا أو وافدة من فضاء الدولة العثمانية ، خصوصا أن مصراتة مرفأ تجاري و نقطة عبور إلى الساحل التونسي.
أما ما يؤكده الأستاذ إبراهيم أحمد أبو القاسم في أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراة من الجامعة التونسية و التي نشرت في كتاب " المهاجرون الليبيون بالبلاد التونسية " – منشورات عبدالكريم بن عبدالله – عام 1992 ، فإن عائلة بورقيبة من العائلات المعروفة حتى الآن في مدينة " مصراتة " و هي تنتمي إلى قبيلة ( الدرادفة ) التي بلغ مجموع أفرادها سنة 1917 حوالي ( 1300 نسمة ). و تتكون هذه القبيلة من الملحمات الآتية : النواصف – الرضاونة – المعاتقة ، أولاد رجب – السقائف.
3 - قال ذلك بورقيبة للسيدة التي أصبحت زوجته الأولى فيما بعد : " ماتيلد " و التي أصبحت تعرف فيما بعد بمفيدة بورقيبة. كما أن كثيرا من زملاء بورقيبة و وزرائه يؤكدون تكراره لذلك القول.
4 – كتاب صوفي بسيس ( سهير بلحسن ) منشورات جون أفريك – عام 1988 .
5 – إن لقب " ألأشقر " هو صفة أو كنية أطلقت على الجد بورقيبة و هذا يؤكد انتماءه إلى " الجالية الشقراء " أي القادمين من فضاءات البلقان في الدولة العثمانية.
6 – ثورة علي بن غذاهم ، كانت انتفاضة لمزراعي الوسط الشرقي ( تونس ) الذين تم تفقيرهم بزيادة الضرائب و تصاعد الجباية. و قد انتهت مساومة بين زعمائها ، ( و هم مجموعة من رؤساء القبائل ) و بين البايات ، و ذلك بعد حملة قمع رهيبة استعمل فيها الجنرال زروق أبناء الساحل ضد أبناء الوسط.
7 – ذكر ذلك بورقيبة أثناء محاضراته التي ألقاها على طلبة معهد الصحافة في كلية الآداب بتونس عام 1973 .
8 - المصدر نفسه ، و هي محاضرات طبعت في كتاب عام 1974 حمل عنوان محاضرات في تاريخ الحركة الوطنية ( حياتي – آرائي – جهادي ).
9 – المصدر نفسه.
10 – دخول الحبيب إلى المدرسة الصادقية عام 1907 كما هو موثق ، يفيد مرة أخرى أنه مولود عام 1901 أو 1900 و ليس عام 1903 ، إذ ليس من المعقول أن يصبح تلميذا و هو لم يبلغ الرابعة.
11 – زار الشيخ محمد عبده تونس مرتين ، الأولى في آخر القرن التاسع عشر ، و الثانية في بداية القرن العشرين. و قد التقى بالعديد من وجوه النحبة التونسية في ذلك الوقت. فكان محرضا كبيرا على النضال و الوطنية للشباب التونسي.
12 – كتاب ( حياتي – آرائي – جهادي ) مجموعة محاضرات من إصدارات الحزب الحاكم عام 1974 .
13 – من محاضرة لبورقيبة في العام 1973 أمام معهد الصحافة و علوم الأخبار – نشرت في كتاب تحت عنوان حياتي ، آرائي ، جهادي.
14 – المصدر نفسه.
* نقلا عن مجلة ألف :
يعتقد بهذا الخصوص أن الذهنية التي كانت تقف وراء مصطفى كمال أتاتورك ( مؤسس تركيا الحديثة ) هي نفس الذهنية التي تقف وراء الحبيب بورقيبة. كانت الخلفيات و المؤثرات التي اشتركت في رسم حدود الشخصيتين متطابقة ، لا سيما من الناحية الجدلية للدين و الدولة . و يعتقد أن كليهما كان عضوا في الماسونية أو الروتارية الدولية. ثم إنهما من سالونيك بالولادة ، إذا صح الافتراض. بإيجاز كانت الاتجاهات نصف الدستورية في تونس و تركيا تلعب على وتر العلمانية و الاستقلال و القطيعة مع الماضي ، و لكن الأنظمة الثورية التي اجتاحت سوريا و مصر ، كانت على العكس ، لا تتمسك بغير البند الثالث مما سبق مع إضافة بنود أخرى أساسية أهمها الحزب القائد وبعض من صفات رومنسية الغاية منها التجسيم و المبالغة ، و هو نفس الخط الذي وضع أسسه المارشال تيتو، كنسخة استشراقية من عظماء الغرب أمثال غاريبالدي أو نابليون ، إلخ...