الحوار والدبلوماسية
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ٢٤ أغسطس ٢٠٢٢
إستراتيجية السياسة تمتلك إدارة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدولية، ونجاحها مرتبط دائماً بنجاح المتحكمين بها وبمديريها ومنفذي أجنداتها، هؤلاء الذين يجب أن يتمتعوا بلغة الدبلوماسية ومبادئها ومقتضياتها، ويأتي في مقدمتها القدرة على الحوار، حتى مع ألدّ الأعداء، ومن ثم مع منشئي العداوة والأصدقاء والإخوة، لأن السياسة أولاً وأخيراً متعلقة بالمصالح التي تربط الجميع إليها، وصحيح أيضاً أن هناك من يقول إذا قطعت من هنا أصُلها هناك، إلا أن للضرورة أحكاماً تقتضي ألا تقطع «شعرة معاوية» أو أن تدع خيطاً من خيوط الاتصال الذي يمثله وسيط أمين أو ذو غاية، ونحن جميعاً نشهد منذ عقود تلك المماحكات التي تجري في أروقة الأمم المتحدة.
في الآونة الأخيرة وصل الأمر إلى الدائرة الضيقة جداً التي يمثلها مجلس الأمن، أي بين الدول الخمس الدائمة العضوية، روسيا والصين وأمريكا مع فرنسا وبريطانيا، وشاهدنا واستمعنا إلى الاتهامات المتبادلة التي قست بها على بعضها، إلا أنها في النتيجة تجلس إلى بعضها بإرادة اللقاء أو بحكم الاضطرار.
الحوار ينتج الحلول، كما هي السياسة فن إنتاج الممكن، لأن الدخول إلى الزجاجة يدعوك للخروج من عنقها والتفكير الجدي والعاقل في رحلة البحث عن الخروج الصعب والمؤلم، فلا خروج سهلاً ولا حل بسيطاً عندما تكون العقد متراكمة بعضها فوق بعضٍ، إلا بالدبلوماسية التي تؤسس للحوار والجلوس إلى الطاولة بوجود الوسيط الذي يجب أن يحفّز الطرفين المتحاورين على تعزيز لغة الوصول إلى الحلول، لأن التعامل مع أشياء ضغينة ومتناقضة والطرفان على تضاد، والأبواب موصدة، والطرق ممتلئة بين الطرفين بالآلام والأحزان والضغائن، لذلك كله ارتبط الحوار بلغة الدبلوماسية التي تعلم مسبقاً أنها تسير سير الأعمى في حقول الألغام، وعليها أن تخرج منها بأقل الخسائر.
لم يرتقِ إنساننا أينما وجد إلى الاقتداء بأنوار السماء، ولم يدرك أنه على الأرض، واختارت أقدامه الغرق في أوحالها حروباً ودماء وخلافاً واعتداءً، بدلاً من السير إلى الأمام بالتعاون مع الآخر، لا بالتنافس والشهوة، لذلك خلقت النزاعات، واستدعت حضور الحوار الذي يجب أن يتمتع بالدبلوماسية التي أوجدت لها بنوداً وأسساً، وغدت شخصية التعامل بين الأمم والدول والمباحثات، حتى إنها أصبحت مطلباً بين الأفراد.
وبما أن احترام النفس ضرورة، فكل صعود خلفه هبوط أو يقابله هبوط، والسقوط غير الهبوط، إلا أنهما يشكلان لغة الحياة الكلية التي يعلمها سواد البشرية، إلا أنهم يبتعدون عن فهمها أو الأخذ بها، أو حتى الأخذ بمفاهيم لغة الحوار الإلهية التي استخدمت الدبلوماسية، من خلال إرسالها لسفرائها التي حملت غاية رئيسة، كمنت في إصلاح ذات البين، وبدأت بإصلاح النفس الإنسانية، وانتهت بالإصلاح بين الشعوب والأمم، هذه الشعوب والقبائل التي تقاتلت على ناقة أو فرس، أو سقوط أمير عن فرس، أو بسبب غاية كالتي كانت في نفس يعقوب، هذه الأمم والشعوب التي حددت أطرها الجغرافية المتداخلة، والتي كانت دونها لتذهب للتقاتل على المياه والغذاء والهوية والحرية والديمقراطية، وجميع النزاعات العنيفة والخفيفة سببها الإنسان ذاته، الذي استغنى عن الاستماع لوجهات النظر، وتمسك بلغة الواشين والمغرضين ورماة الفتن، فألغى الحوار، واستغنى عن الدبلوماسية، فكان ما كان.
ولكن مهما بلغت الأمور صعوبةً، فالحروب تنتهي بالجلوس إلى طاولات الحوار، والمصالح لعبة، أولها خصام وآخرها وئام واتفاق والتقاء، فلا عداوة دائمة في السياسة، عندما تؤمن بثقافتي الحوار والدبلوماسية، لأن هذه الأخيرة تسمح بالتقاء الآخرين ضمن ظروف خاصة أو عامة أو طارئة، وتمهد للحوار مع العدو والأخ والصديق، وكلما ارتقت كانت نتائجها مهمة، حتى تصل إلى النجاح، فتكون مبهرة ومقنعة للجميع، والإقناع كلمة، وجميعنا يحاسب على الكلمة سواء أخطأ أو أصاب بعد نطقها.
إذاً الكلمة مظلومة وظالمة إن لم تصب أهدافها، ما يؤكد قوتها عندما تكون صاحبة حق، وضعفها حتى وإن كانت على حقّ إن لم تستند إلى القوة، والدبلوماسية بينهما ستكون الجامعة والرافعة، وفي الوقت ذاته المليّنة للوصول إلى نقطة التعادل والتفاهم على الحق، وعبر كل الحقب التاريخية كان انتقاء حاملي الرسائل ملحوظاً ومهماً جداً، الذين نطلق عليهم سفراء ووزراء ومبعوثين، ويُختار كلٌّ منهم لتمتعه بالخبرة السياسية والحذاقة والتهذيب والفكر، والعلم بالشيء ينبغي أن يعطيه أو يتبادله أو ينجزه، فالدبلوماسية مهمة جداً، والحوار أهم.