السيف والطوفان
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٣
كما الدول تُشهر السيوف ضد بعضها، كذلك أخذت الشعوب في داخل الدول أيضاً تُشهر السيوف على بعضها، استحضرت هذا العنوان بعد أن استحضرني شعر أبي تمام "حبيب بن أوس بن الحارث الطائي" الشاعر العباسي المولود في قرية جاسم في حوران السورية بين "803-845م" وقصيدته التي تداولت الأمم أهم بيت فيها، وحتى اللحظة، إبان وصف معركة عمورية ضد الروم 838م "السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ" وهنا لابد من أن أستعين أيضاً بالمفكر العربي ابن رشد القائل:(التجارة بالأديان هي التجارة الرابحة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل).
يكمن عمل القادة الكبار في تأثيرهم على الآخرين بالقوة الناعمة التي تخترق عقولهم بدلاً من الرصاص الذي يفتح الثقوب في أجسادهم، إنها مسؤولية المعطيات والمعلومات التي يجري تقديمها للقادة، فإذا كانت ضعيفة ومغلوطة أفقدت العملية حضورها وغَلّطَ الواقع بعضه، مما يؤدي إلى النتائج الخاطئة، هذه التي تدعو للحرب، والحرب تسبب الخوف، والخوف يوحد ويدفع بالإنسان للالتقاء، والحماية لمن يحب، الحب إذا لم يتمتع بالحرية يفرّق كون أهم سمة فيه هي الأنا، بدءاً من حب المعبود وانتهاءً بحب العابد، وأستحضر هنا يوليوس قيصر وصديقه بروتس بقصة "خيانة الأصدقاء" وكذلك حصان طروادة ورمزية المؤامرة الخفية، وقضية هاملت وصراع الذات والشهوة والسلطة، وتجسيد داحس والغبراء؛ وهما اسما فرسين لحرب بلا نهاية، وبين هذا وذاك أجد أن الحياة تؤجل لك الدفع لكنها لا تتنازل عنه أبداً، والشعوب تنسى قادتها في الرخاء وتهاجمهم أوقات الشدة، وكلما اشتدت الأزمات تنامى الرفض بدلاً من التشارك لإيجاد حلول لها، هكذا طبيعة الأخذ والرد، ولحظة أن ينتشي القادة تبدأ المؤامرات بينهم.
هل فقدنا القدرة على التمييز بين الواقع والخيال؟ بين مخرجات الحرب ومنجزات السلام؟ وللعلم أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يَخجل، لأنه المخلوق الوحيد أيضاً الذي يفعل ما يُخجل، وسواد البشر غافلون عن ذلك، يتطلعون إلى المستقيل دون أن يدركوا أنه ماضٍ نرويه بوجوه متجددة، وهل نمتلك غير هذا التفسير؟ وماذا تعني انهياراتنا التي تتكرر أمام ما نعتقده بأننا نحرز تقدمات على حساب التراجعات؛ أي أننا نقوم بتصحيح أخطائنا، وسرعان ما نعود للوقوع فيها، وللعلم أن كثرة المقدسات وتكاثر انتشار رجال الدين يعني انتشار الجهل وظهور الكراهية واختفاء الإبداع وامتطاء السيوف استعداداً للقتال والانفصال والتقوقع خلف التروس.
هل الأصالة ترافق الحداثة؟ ماذا يعني الترفيه الغبي القادم من التخلف؟ وماذا يعني الجهل عندما يلبس لبوس الاستنارة؟ وهل صحيح أن الأفكار الخلاقة تمثل عناصر جاذبة للحياة؟ هنا أدخل في حوار حول أدمغة البشر التي تبدع في الانهيار، وتتوه بين النعيم والبحث عن خلاصها من الجحيم الذي تصنعه أفكارها، الأمر الذي حول الجميع إلى أعداء، حتى وصل إلى قول: لا صداقات على القمم بل تنازعات تتدحرج لتدمير القواعد والأساسات.
أيها الناس تماسكوا ولا تسمحوا للعقول البشرية الفظة أن تدمر بذورنا وجذورنا، لأنها تسعى لطمس كفاحنا وتدعونا للتخلي عن أرواحنا، هكذا جذافاً، هذه التي وهبتنا إياها الروح العظيمة والطاقة الكلية من خلال النور الأزلي الذي منحنا الرؤية، ومن خلالها الحركة والتبصر كي نستمر، أؤمن بأنكم ستقفون إلى جانب الوعي والحكمة، حتى وإن حملتم سيف أبي تمام فلن يختفي أو ينسى أي فعل اقترفتموه، فأين ستذهب كل فلسفة الحب والذكريات والمواقف الهامة والصداقات والصخب والجنون والمجون والفرح والحزن والموت والحياة.
هل سنبقى نتمسك بسيف أبي تمام وإلى متى؟ ألا يكفي ونحن ندرك أنه ما ضٍ حمل الآلام والآثام، وإن كان فيه بعضٌ من حياة، ألا يجب أن نتفكر في الحاضر والبناء والغد، أم أننا نريد تدميره كما فعل الرسام العالمي الفرنسي "جوزيف ديزاير كورت" في لوحته (الطوفان) المأخوذة مما جاء في العهد القديم عن الطوفان، التي ظهر فيها شاب يحاول إنقاذ رجل عجوز بلحية طويلة، بينما يُهمل إنقاذ زوجته وطفله، فالعجوز يرمز إلى الماضي، ولحيته ترمز للتراث، والأم والطفل يرمزان إلى الحاضر والمستقبل، والمعنى الدقيق "من تمسك بالماضي أضاع المستقبل" والمغزى الأدق أن إنقاذ الشيخ العجوز في هذه اللوحة يمثل عصر الظلمات الذي كان فيه تقديس رجال الدين وتقديمهم على العائلة وعلى أي شيء آخر، بينما المرأة تمثل الحياة، وطفلها الذي تحاول إنقاذه يمثل المستقبل، السيف والطوفان يأخذان منا الحياة، وإذا كنتم تحبون الحياة فلنذهب إلى البناء وعلى أقل تقدير أن ندعمه.
د.نبيل طعمة
دققوا في لوحة الفنان: