"العكيد".. والزقاق.. والحارة

ثقافة

الأحد، ٢٩ يناير ٢٠١٢

لحارات وأزقة وزواريب دمشق قصص وحكايا، فكل حارة وحدة اجتماعية متكاملة، فهي مدينة مصغرة يعيش أهلها كعائلة واحدة في السراء والضراء، وللحارة الدمشقية تفاصيل وتشعّبات بحركة الحياة اليومية وحتى في جزئياتها البسيطة.. واشتهرت هذه الحارات العتيقة بأنها حارات ضيقة ومتعرجة، حتى ليخال للمرء أنها لوحة فنية رائعة لرسام جمَع بين التاريخ والجمال واختزل بريشته قصة مدينة اسمها دمشق ظلت خالدة أبد الدهر.
والبيت الدمشقي، هو محط اهتمام وانبهار، لكل عشاق دمشق، منذ الأزل يتغنّون به، فهو آية في الجمال والروعة، وأحد مآثر العمارة العربية بمواصفاته الفريدة.
حارات متعرجة:
تميزت حارات دمشق القديمة بأنها ضيقة مدخلجة (ملتوية، متعرجة) كالحرباء، ويصف أهل دمشق حاراتهم بأن: (فيها فوتات وطلعات وزواريب وزوابيق ما هب ودب) بمعنى فيها كثير التعرجات والتقاطعات الضيقة، وتؤلف كل حارة أو زقاق وحدة اجتماعية مغلقة، فكل منهما أشبه بمدينة صغيرة لها بابها ومسجدها وفي أغلب الأحيان كنيستها، وكتاتيبها (مدارسها) ومياهها فلكل حارة طالع ماء (موزع ماء الخاص بها)، كما كان لكل حارة حمّامها وسوقها الذي يحتوي على الحبوب والخضراوات والفواكه واللحوم.. ولها عكيدها، والعكيد هو زعيم الحارة أو مختار الحارة، ويكون من أعيان وأغنياء الحارة، ويتصف بصفات حميدة مثل النّخوة، والشهامة، والكرم والحميّة، وقد تكون كلمة عكيد أصلها عقيد (وكلمة عقيد مشتقة من كلمة العقائد التي تعني الأمور التي تصدق بها النفوس، وتطمئن إليها القلوب، وتكون يقيناً عند أصحابها، لا يمازجها ريب ولا يخالطها شك، ويقال اعتقدت كذا، يعني، جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم)، وبما أن أهل دمشق لا يستعملون حرف (القاف) فقد حورت الكلمة وأصبحت عكيد، والعكيد في الحارة الشامية هو كبيرها، صاحب الحل والربط في الحارة، الذي يحل مشاكلها ويقدم المساعدات لأبنائها المحتاجين ويؤازره ويساعده أغنياء الحارة في حال اعترضتهم أي مشكلة، وكلام العكيد مسموع ومطاع من كل أبناء الحارة صغيرهم وكبيرهم.
أهل الحارة الدمشقية يعيشون كأنهم في بيت واحد، كلهم يعرفون بعضهم بعضاً.. يعرفون الولد والبنت والصهر والحفيد والنسيب وكل غريب يأتي إلى الحارة.. واشتهرت حارات الشام بميزة (السكبة) وهي ميزة اجتماعية من توطد العلاقات الاجتماعية وأواصر المحبة والمودة بين أبناء الحارة، و( السكبة) تعني تبادل أهل الحارة الطعام فيما بينهم وخاصة في شهر رمضان، وفي الأعياد. كان للعديد من الحارات أبواب تغلق في المساء وتفتح في الصباح الباكر وهذه الأبواب كانت تسمى (باب الخوخة) وهي مصنوعة من الخشب وعبارة عن باب كبير في وسطه أو بطرفه باب آخر صغير يدخل منه الناس بسبب إغلاق الباب الكبير الذي لا يفتح إلا للضرورة، كما كانت للعديد من البيوت الدمشقية (قصور) مثل هذه الأبواب، ولم تزل حارات دمشق حتى الآن تحتوي على العديد من هذه الأبواب والتي جار عليها الزمان.
الطريف في تسمية الحارات: لكل حارة دمشقية قديمة عتيقة قصة ورواية، وللعديد من الحارات هذه مواقف بطولية شامخة في وجه الغزاة والمعتدين، وتاريخها حافل بالنضال، وسطرت صفحات ناصعة في سجل التاريخ لمقاومتها هؤلاء الغزاة، وسميت العديد من الحارات والأزقة الدمشقية على مر العصور بأسماء مختلفة، منها الطريف والغريب ومنها المبدع الجميل، فكان هنالك على سبيل المثال، زقاق (مطرح ما ضيع القرد إبنو)، وزقاق (الولاويل)، و( زقاق الجن)، وحارة (الخمارات)، وحارة (الكلبة) و(الجردون) و(القطط)، و(الزط)، و(الزفتية) و(الطنابر) و( الطبالة) و(أبوحبل) هذه التسميات قد يبرر أهل دمشق سبب تسميتها، وقد يقفون عاجزين عن سبب التسمية.!؟ وبالمقابل كان هنالك أسماء لحارات وأزقة دمشقية جميلة مبدعة، فكانت (حارة الورد) و( جناين الورد) و(الروضة) و( طالع الفضة) و( الزاهرة) و( الخضرا) و( الرمان) و( الزيتون) و(جنينة النعنع) و( الفردوس) و( الجسر الأبيض)...
يقول المؤرخون وعشاق دمشق، لكل اسم مكان بدمشق حكاية، ولكل حكاية طرفة، والطرافة والدماثة واللباقة هي صفة أهل دمشق، ويعزون ذلك لأن ابن دمشق ابن بيئة تجارية منفتحة على الشعوب والأمم، وتظهر طرافة الدمشقي بشكل خاص في تسمية الأماكن.
التعرج في الحارات:
تضم دمشق العديد من الأحياء والحارات العريقة والتاريخية. واشتهرت حارات وزواريب دمشق بطابعها الخاص من حيث البناء والحياة الاجتماعية، وأهم أحياء وحارات وأزقة دمشق تقع ضمن دمشق القديمة التي تتواجد داخل أسوار المدينة القديمة، أو خارجها، وعرفت هذه الحارات والأزقة بأنها ضيقة ومتعرجة، وهنالك حتى الآن مثل هذه الأزقة في منطقة باب توما وشارع الأمين (حارة اليهود) بحيث ليكاد المرء أن يمر فيها.. وهذه الحارات والأزقة القديمة تغص بالزوار والسياح.. ويروي الدماشقة الكبار في العمر:أن إنشاء هذه الحارات والأزقة بهذا الشكل المتعرج كان على علم ودراية، ويعود لأسباب دفاعية وهجومية، وأسباب اجتماعية في آن واحد.. فقد كانت دمشق تتعرض لاعتداءات متكررة من قبل الغزاة والمستعمرين، فأراد أهل دمشق بناء حاراتهم وأزقتهم بشكل متعرج وملتوٍ لسهولة الدفاع عنها من المعتدي والغازي، فلا يرى المعتدي الحارة إلى آخرها، ولا يعلم من يكمن في متعرجات الحارة من الشباب والمدافعين عنها.. كما أن تعرج الحارات يعود لعادات وتقاليد الدماشقة، فالنساء الجارات يقمن في النهار أثناء غياب أزواجهن ورجال البيت بزيارات لبعضهن بعضاً لوقت قصير قد يقضونه أمام أبواب البيوت (على الباب).. يتبادلن أطراف الحديث، أو لقضاء أمر ما، ويتركن باب البيت مشقوقاً (مفتوحاً)، والتعرجات في الحارات يحجب الرؤية من بعيد فحين يمر أحد رجال أو شباب الحارة وحتى الغريب عن الحارة وجب عليه عند كل تعرج (أو لفة) في الحارة أن يعلن عن قدومه بقوله بصوت عال: يا الله.. يا ستار.. فتسمع النساء الصوت فيغلقن الباب أو يعدن من الحارة سريعاً إلى البيت...
لهجات الدماشقة:
يقول عبد الرحمن بك سامي عام 1890م: (لغة الدماشقة لينة رقيقة، ولهجتهم حسنة لطيفة توافق طباعهم، إلا إنه فيها كغيرها من لغات أهالي المدن والأمصار العربية شيء كثير من الألفاظ غير الفصيحة، وبعض التراكيب المخالفة لقواعد اللغة العربية الفصحى، ولا عجب بذلك فإن هذا شأن اللغات الواسعة في كل المدن والأمصار في كل الأزمان والأجيال... وإذا نظرنا إلى لغة الدماشقة رأيناها مشوَّهة كغيرها وفيها من الألفاظ والاصطلاحات ما لا يوجد بغيرها إلا أنها رقيقة يقبلها الذوق ولا ينفر منها الطبع وهي قريبة من اللغة الفصحى أكثر من كثير غيرها من اللغات).
الطريف في أهل دمشق ومن سكن فيها، أن لكل حي أو منطقة لهجته وصفاته وطباعه، وهنالك تنافس في بعض الأحيان بين الأحياء والحارات، وكانت العديد من الحارات تتكنّى بالمدن الكبرى، فحي سوق ساروجة كانوا يطلقون عليه اسم اسطنبول الصغيرة، في حين يطلقون على حي القيمرية اسم الهند الصغرى، وأهل الميدان كانوا في تنافس مستمر مع أهل الشاغور على (الزكرتية) الكرم والشجاعة، وقد يكون لكل حي لهجته الخاصة فالشاغوري نزق في كلامه، والميداني لا يتراجع في كلامه فهو واثق بنفسه وكانوا يقولون عنه إصبعه (تخينة)، وأهالي الصالحية كانوا أكثر (دلالاً) نتيجة اختلاطهم مع الغرباء الذين أقاموا بدمشق فكانت لهجتهم ناعمة رقيقة فمثلاً ينسبون لهم قول (طلعت السمسه "الشمس"على الزوزه"جوزة")، وهنالك حارات بدمشق تتصف بصفات خاصة بالطباع واللهجة، كحارة المغاربة، حيث اللهجة المغربية والجزائرية هي السائدة، إضافة إلى الحدة في الطبع، وأهل هذه الحارة حين يغضبون أو ينزعجون يحذرون الآخرين (هلّأ بتطلع مغربيتي) وفي المهاجرين كانت الكلمات التركية تساير الكلمات العربية لكثرة الأتراك القاطنين في المهاجرين، أما الأكراد والأرمن فكانت لغتهم العربية (مكسرة) فحديثهم بالعربية مليء بخفة الدم والطرافة، ولهجة أهل القصاع وباب توما هي مزيج من لهجات أهل المدن والقرى (صيدنايا – معلولا – مشتى الحلو – برشين..) الذين قطنوا دمشق، كما كان يهود دمشق القاطنين في حي اليهود (يمطون) آخر الكلمات بحيث يختفي آخر حرف من الكلمة.
 سقى الله تلك الأيام لم نعشها، وإنما سمعنا وقرأنا عنها، كان كل شي بسيطاً فيها، لم تعرف تعقيدات تكنولوجيا أيامنا هذه وفساد النفوس الطاغي على مجتمعاتنا، ولربما كانت السكنى بدمشق:( السكنى في الجنة.. والسكنى في دمشق.. شيء واحد) ؟!.


شمس الدين العجلاني - أثينا
alajlani.shams@hotmail.com