القبــــار... أزهاره فراشات.. خضرته دائمة... وحيداً ينعــم بصمــت البـراري والأماكن المهجورة
صور من العالم
السبت، ٥ يونيو ٢٠٢١
وهو الذي تشبّه بناسك يعتزل الحياة, فافترش التراب.. التصق به ليكون أقرب إلى معنى الوجود. ولأنه يفضل الصمت, هرب من الضجيج .. كلما لاحقته المدينة أمعن في الهرب منها حتى حدود الفيافي, والصخر المتوحش في البراري الساكنة.
فوق كأسها الأخضر تفرد بتلاتٍ لؤلؤية شفافة كأجنحة الفراشات, ومثل صبية تفرد شعرها لريح تعابثه, ذات أسدية بيضاء (ارتشفت بعض لون ليلكي ) ناعمة طويلة كأهداب تلك الصبية وحشية العينين, كأنها ابتسامة حزينة تجمدت عند مفترق زمن ما! حين تقترب منها تدغدغ أسديتها وجهك, توشوشك, ربما تسألك: هل شممت عطري هذا الصباح؟ لقد تعطرت بإكسير اليخضور والأوكسجين وبأريج التراب من أجلك أنت!
ذات تعارف
تعرفت على زهرة القبار يوماً, كنا طفلتين, ولأننا لم نتقن حينها بروتوكولات التعارف, بقينا أنا وهي دون أسماء صريحة, أوعناوين إقامة ثابتة, و كنت كلما أردت الحديث عنها, أستفيض في شرح أوصافها, فلا اسم لها أعرفه ليختصر كل ذاك الجمال. في التاسعة من عمري, رأيت نباتاً أخضر غريباً يمتطي صهوة جدار طيني شبه متهدم, من بعيد بدت لي بضع فراشات تحط على ذلك الأخضر, حين اقتربت منها, لم تكن فراشات, بل زهرات وادعة, قررت فطامها عن صدر أمها, قرّبتها من أنفي, ومنذ ذلك الحين أحتفظ بوشم عبقها عميقاً في ذاكرتي. وهناك قصيدة بعنوان النرجس البري, أذكر أن الأستاذ شرح قصة طفل مع تلك الزهور تشبه تماما قصتي مع زهرة القبار التي كنت حتى ذلك الوقت أجهل اسمها, وتقول: رأى طفل جداراً تنبت على حافته زهور نرجس بري, أغرته, نادته, صعد إليها, قطفها, تنشق عبيرها, ثم... ثم رماها ومضى! لم تكن زهرة القبار أو النرجس البري سوى رمز لفلسفة الحياة التي تسحرنا, تغرينا, تنادينا, ترشف رحيق عمرنا, ثم ترمينا في سلة الموت, فلا يبق منا غير ذكرى اسم أو بعض أريج ربما! فرقتنا دروب الحياة, ابتعدنا زمناً طويلاً.. وفي يوم ربيعي جميل, بالقرب من سكن الإنسان العتيق الذي سكن مغاور معلولا رأيتها! مرة أخرى كادت حميمية اللقاء تنسينا بروتوكولات التعارف, لكننا تبادلنا الأسماء والعناوين هذه المرة.
ينمو القبار دون كثير اهتمام، فقد فهم فلسفة الحياة, وخبر مواجهة ظروفها, لذا يكثر بطريقة تلقائية في الأراضي المهملة والمحجرة، لم يكن ذاك النبات مصدر سعادة لأحد ولزمن طويل, فكافحه المزارعون في أراضيهم كلما وجدوه, إلى أن قرر الإيقاع بهم واصطيادهم, فرمى شِباكه واستدرجهم حتى كادوا يقدسونه بعد أن اكتشفوا منذ عدة سنوات ما له من فوائد تدر عليهم الأموال والصحة, بل لقد غدا مورد رزق موسمي هام ربما لأكثر من عشرة آلاف شخص، هذا في حمص وحدها, إذ يمكنك أن تشاهد الأطفال والكبار منتشرين في براري منطقة المخرم بشكل خاص بحثاً عن براعمه أو ثماره التي توفر فرص عمل للكثيرين, ووفق بعض المعلومات يقدر المردود السنوي للقبار بحوالي مئة مليون ليرة. يعتبر رحيق أزهار القبار من أفضل ما يرتشفه النحل لإنتاج عسل من أجود الأنواع . بعد قطاف أزهارالقبار وبراعمه تتحول بقاياه إلى غطاء رعوي. ولأنه يقطف بطريقة جائرة خلال فترة إزهاره, فإن ذلك يؤثر على مربي النحل في المنطقة حين يعمد الأهالي إلى قطف كامل الأزهار والبراعم ولا يتركون أي منها للحفاظ على اكتمال نضج النبات مستندين إلى زعمهم بأنه ينمو بكثرة وتلقائية.
ومن أسمائه وصفاته
يعرف نبات القبار( الشفلّح ) بعدة أسماء شعبية على مستوى الوطن العربي وهي: كبر، قبار، كبار، لصفاف، لصف، شفيح، قطن، سلبو، ورد الجبل، شوك الحمار، اصف، شالم، فلفل الجبل، لوصفة، علبليب، عصلوب، تنضب، ضجاج، سديرو. و ذكر ابن منظور في لسان العرب أن اللّصف شيء ينبت في أصل الكَبَر وهو رطب كأنه خيار, أما ثمر الكبر فتسميه العرب بالشفلّح إذا انشق وتفتح كالبرعم . توجد عدة أنواع من الشفلح, وهو عبارة عن شجيرة معمرة يتراوح ارتفاعها بين 30 – 80 سم، يفترش أغلبها الأرض. القبار نبات دائم الخضرة ذو فروع زاحفة أو ممتدة، سهلة الكسر، أوراقه سميكة ذات أذينات شوكية. وأزهاره كبيرة تتفتح صباحاً بلون أبيض مائل إلى الوردي , وتذبل قبل الظهر مخلفة لوناً أحمر جميلاً. ثمرته لبية تشبه الكمثرى محمولة على عنق طويل. عندما تنضج الثمرة يتحول لونها من الأخضر المصفر إلى القرمزي الزاهي, ويكون طعمها حلواً من الداخل ومراً من الخارج. جميع أجزاء النبات يمكن أن تستخدم بما في ذلك الجذور. يزهر القبار منذ أيار وحتى أواخر الصيف، كما ترعى عليه الماعز والإبل.
وفي الطب القديم
وجدت على شبكة الانترنيت ما يلي: ورد في مخطوطة لأبي جعفر ابن أبي خالد المتطبب «الاعتماد في الأدوية المفردة وقواها ومنافعها» أن الشفلح هو الأصف, والقبار وهو شجرة تعلو على الأرض ذراعين, ينبت في الصخر وله قضبان دقاق وغلاظ، خضر وحمر. المستعمل من هذه الشجرة، عرقها وورقها ونوارها وحبّها. وهي قاطعة ومنقية للرطوبات الزائدة في المعدة ومفتحة لسدد الكبد ومحللة لماء الطحال وغلظه, ومدرة للبول والطمث, وإذا شرب بعسل وماء حار نفع من أوجاع النقرس والوهن العارض للإدراك. ومن كان لديه ألم ضرس فعليه ببعض جذر الشفلح. وإذا ضمدت به الجروح الخبثية نفعها نفعا عظيما.أما الملك المظفر فيقول في كتابه المعتمد في الأدوية المفردة عن الشفلح ما قاله أبوجعفر ويضيف: إن ثمرته المملحة إذا غسلت ونقعت حتى تذهب قسوة الملح , صارت على مذهب الطعام تغذو غذاء يسيرا, وعلى مذهب الإدام تؤكل مع الخبز, وعلى مذهب الدواء تكون محركة للشهوة المقصرة ولجلاء ما في المعدة من البلغم وإخراجه, ولتفتيح ما في الكبد والطحال من السدد وتنقيتها, وإذا استعملت هذه الثمرة فينبغي ان تستعمل مع خل أو عسل قبل سائر الطعام, والشفلح ترياق يطيب الفم ويطرد الريح......
أما مغلي الشفلح فيستعمل كغسول للعينين, كما يشرب ساخنا لعلاج سوء الهضم. قشرة الجذر فاتح للشهية. البراعم غير المتفتحة تخلل في الخل وتستعمل كتوابل مع السمك والدجاج. أما السودانيون, فيمضغون أوراق الشفلح من أجل علاج آلام الاسنان والتهاب اللثة.
يمكن استخلاص مواد طبية من جذور الشفلح, تستخدم لمعالجة حالات فقر الدم والاستسقاء والتهاب المفاصل وداء النقرس, كما تستخدم في صناعة وتكوين المستحضرات التجميلية, وتفيد في معالجة التهابات الجلد والحساسية. ويرى أخصائيون في الطب البديل أن نبات الشفلح في مقدمة النباتات الطبية المساعدة على الاستشفاء من أمراض الروماتيزم وارتفاع نسبة السكر في الدم وإصابات النفخة والاضطرابات الكبدية .
ثروة وطنية
ينمو القبار في المناطق الجافة وشبه الجافة في سورية، لكنه ظلّ مجهول الفائدة غير مرغوب بوجوده حتى سنوات قليلة ماضية, حين اكتشف بعض الباحثين فوائده الطبية, فاندفع الناس نحو جمعه بعد أن أسالت أسعاره لعاب جهدهم, وهكذا احتل القبار صدارة اهتمام سكان مناطق انتشاره منذ أول زهرة له وحتى آخر واحدة, خاصة وأن تجار حلب وإدلب يقبلون على شرائه مقابل مبالغ مغرية إذ قد يصل سعر الكيلو غرام الواحد من براعم القبار الى 90 ليرة سورية ومع انتشار حمى القبار تنبهت وزارة الزراعة إلى الأمر, وعملت على تنظيم استثماره وقطفه من خلال منح رخص لاستثماره في الأراضي الخاصة، ورخص أخرى لتخزينه, بهدف منع القطاف الجائر للقبار والذي يهدده بالانقراض، كما أكدت الوزارة على الاستمرار في استثماره، على أن تترك نسبة لا تقل عن 20 % منه دون قطاف، هذا بالإضافة إلى وضع خطة لشراء بذور القبار من السكان, وزراعتها في المناطق الصحراوية والفقيرة بغية تشجيع زراعته, لما له من قيمة اقتصادية وطبية.
الأزمنة