القديس والإبليس
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٧ فبراير ٢٠٢٣
ينظر الناس بينهما، تملؤهم الحيرة إلى من سيتجهون، من سيعلن النصر على الآخر لحين الوصول إلى ذلك؟ ينبغي إحداث النهوض والتحرك إلى الأمام، ولنبدأ بالعدِّ التصاعدي، أي من حيث نحن حاضرون، لأن التنازلي يعيدنا إلى الصفر، وإذا أقررنا أننا في منتصف المنحدر، يعني هذا أن لدينا أساساً نستند إليه، ولولاه لكنا في القاع. إذاً من الضروري إعمال العقل والاستثمار فيه، مادمنا مستمرين في الحياة، هذه التي منحتنا الفرص الإضافية التي من دونها لا معنى لأي شيء.
المسألة ليست سحراً، وكل من يتحدث عن أنه لا يمتلك عصى سحرية أقرب للفشل، لأن السحر في جوهره كيمياء، يظهر نتيجة معادلة بين طرفين إن أجدنا تركيبها، نجحنا، وإن لم نؤمن بها.
يكون السحر عبارة عن ألعاب خفة ومكر وخداع بصري، تنطلي على المنتظرين، وينتشر هذا في الأزمات التي يتأذى منها سواد المجتمعات، الذين يشعرون بالغضب، ويتحول غضبهم إلى تعصّب وتطرف، يسقطونه على كل شيء، ومن سمات التطرف السعي للخلافة الدينية أو الأيدولوجية وتطبيق الحدود الشرعية وعدم الاعتراف بالقوانين الوضعية وتعزيز الكراهية بين الأديان، وامتلاك لغة الإقصاء والاتجاه لافتعال الحروب والإرهاب، وتوليد ثقافة الغزو والسبي والتضييق على المرأة وعلى الحريات العامة.
الناس عالقة بين مفهومين؛ اليمين المشبوه أو اليسار المتردد، ومتمسكة باللاوعي بمنظومات دينية ولا دينية. مجتمعات النفاق تتجه في الصورة إلى القداسة، وتعتمر أغطية العفاف، هذه التي تنشر وتعزز حَجب العقول تحت حجاب الرؤوس، آخذة بنواصي التشدد، منهية أي دور للتسامح أو الحوار أو قبول التنوع والتعدد.
في زمن الاضطراب قول الحقيقة عمل أخلاقي، وصحيح أن الجسد يطلب غريزياً الطعام والماء والهواء والجنس والنوم، إلا أنه يحمل عقلاً مفكراً، فرزه عن باقي الأجناس، ما هيأه لقيادتها لأنها تمثل له الحياة، كما يمثلها لها، يشترك معها بالرغبات، إضافة لامتلاكه ألغازاً تأخذ به، إما ليكون قديساً، وهذا نادر، وإما إبليساً، وهذا المنتشر، فالإنسان ابن أفعاله التي تعرّف عنه، حتى وإن أنكرها، وفي الواقع إن لدى كل إنسان وجهين، الماضي والمستقبل، يشكلان حضوره الذي ينجز به ما يريد أن يكون عليه في وجوده. ومما سرت إليه أجد أن العنوان يستحق التأمل والتفكر فيه بعيداً عن العواطف أو المشاعر، لأنه يحرّض الفكر، ويدفع به لتدقيق النتائج المتوافرة قبل متابعة الخروج، ومن ثم تحديد القدرات للمسير إلى الهدف.
إن عدالة البشر ومهما بلغت قداستهم، ومهما قويت بصيرتهم، فإنها كثيراً ما تأخذ بريئاً بوزر غيره، وتفلت مجرماً من إسار العقاب، معارك دامية وحروب طاحنة تدور بين جدران الحياة، يصنعها البشر بأنفسهم من أجل ماذا؟ الأنا، المرأة، المال، الجاه؟ نتائج تظهر معاناة تجمع الفقير والغني والقديس والإبليس، في ظل أوضاع تكون غالباً شديدة التعقيد، منافذها ضيقة وأبوابها موصدة، هذا ما ينشئ الحزن العميق الذي أراه يشكل ثمناً باهظاً لإعادة الحب والإيثار والعمل الجماعي إلى الحياة التي تدعونا للتأقلم معها أولاً، ومن ثم اختراقها.
هل من عجيبة مقدسة تعيد للإنسان حضوره وإيمانه الحقيقي؟ يأخذ بالجميع إلى الخلاص من سيصنعها.. الرب أم الإنسان؟ فكل ما وراء الأزمات المحلية والإقليمية والعالمية تقف الأبلسة التي تراكمت وتجمعت الواحدة فوق الأخرى، ومن ثم انفجرت دفعة واحدة. ماذا يعني أن نكون في زمن امتلأ بالإرهاب والابتزاز، وتفاسير تقيد العقل وأيديولوجيات لم تعد تغني فكراً واعياً؟
سؤال مهم: لماذا يحمل سواد العالم الوراء إلى الأمام؟ هل لنشهد عودة كبرى لسلاطين الحروب المقدسة والإرهاب المتأبلس والتضليل الروحي والعقائدي والاختيارات السلبية في اللحظات السيئة، التي تنتهي فيها بوارق الأمل، وتنهي حضور السعادة؟
لنعترف بتراكم المعضلات والقضايا التي شكلت مجموع الأزمات العالمية، وانفجرت بين الجميع وبأشكالها المتعددة سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية وجنسية، "عودة الشذوذ" ومنحه غطاء القداسة اليوم، كل شيء أصبح مكشوفاً حتى درجة العري، واختلط الكل، وكأن بهم على شاطئ العراة، وأمام كل هذا لم يعد هناك قديسون، واختفى إبليس من الوجود، وانتشر المتأبلسون، فإلى أين تذهب الناس؟ إلى استمرار الخلل الحادث في جميع العلاقات الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية؟ أم إلى البدء بإصلاحات جذرية في البنى التحتية والفوقية التي هدم فيها اللامادي؟ من الإنسان هذا الذي خلق الفراغ فملأ بالعبثية بين القديس والإبليس؟ نشأت قضايا كبرى، كيف نتصدى لها، ونعمل جاهدين لحلها وفقاً لقواعد الممكن؟ من نحن، ولمن ننتسب تحت عنواننا؟.
د. نبيل طعمة