الكتابة مهنة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٣ مايو ٢٠٢٣
شاقّة، يحرسها المبدعون أصحاب اللغة اللافتة للبصيرة، التي تمتّع الفكر عبر متابعة مفرداتها الواقعة على خطّ البصر، الناس تدرك بسيطها وفقيهها، قوة الكلمة وتأثيرها، وأهم من كل ذلك موقعها الذي تجذب إليه قارئها، إنها صبغة غير عادية عندما نطلقها على إنسان ذكراً كان أم أنثى، هادئاً أو محترفاً، فإذا تعلق واستمر تخلّق بها، وغدت له مهنة، وإذا تقطّع ولم يتصل فهي هواية، وكلما اجتهد وأخلص تألقت موهبته وانصقلت، وأنصفته مهما حاولوا تغييبه.
تلد الكتابة من خلال بحث العقل عن درب المعرفة التي لا يمكن أن يصله من دون حبّ لم يرد، ومعه يستهل أولى خطواته التي إن تتابعت راكمت به علماً، ومن خلالها تنصهر تجربته، إلى أن يكتب أول حضور لنجاحه، ومن الجيد والجميل أن يتقن الكاتب عمله، وطبعاً كل من يعمل في مهنة عليه أن يتقنها، لأنها تدعوه بقوة كلما أجادها إلى الاستمرار والتطور، أي إنها تدعوه إلى الحياة والإسهام في تقديم الأفضل والمفيد لها، وهنا تتولد التساؤلات: متى يكون الكاتب موضوعياً؟ وهل يحقّ له نسج الخيال وتصويره والنقد البنّاء وتوجيهه؟ وهل يكفي أن يكون بلاغياً أو توثيقياً؟
ذات مرة دخل عليَّ أحفادي، وانكبوا على طاولتي في مكتبي المنفرد ضمن منزلي، وسألوني فرادى: لماذا تكتب يا جدّي، ولمن؟ وبما أنني أعشق الإثارة، وجدت من يحفّزني، فقلت أكتب لكم، لأنكم أنتم المستقبل الذي سيلمع في ظلمات القادم. أخذ كل واحد منهم ورقة مما أكتب، حاولوا القراءة، وأفادوني بأنهم لم يفهموا شيئاً، وأعمارهم لم تتجاوز من السنوات العشر، قلت لهم: نحن الآن في الحاضر، وما أخطّه الآن يخصُّ استنهاض الحاضر الذي تاه بين التجهيل والتنوير، وفقد مفاهيم الانفتاح والتجانس والتكامل وأسباب وجود الإنسان، وذهب إلى التطرّف والكراهية والعنف. يا أحفادي لا يمكن إعادة الماضي إلى الحياة، لأن الماضي مثل المجهول، فكلما كافحنا الخوف من المجهول أزلنا المخيف من الماضي المسكون في تاريخينا وعقولنا، وهنا يحرجني سؤال حفيدة لي: أنت يا جدّي ستكون في المستقبل ماضياً، فأجبت بلا تردّد: هذا صحيح، لأن المغادرة ضرورة حتمية، وعندما أغدو ماضياً أنتم ستقررون إن كنت جيداً، فسأستمر معكم، وإن كنت سيّئاً، فلأشطب من ذاكرتكم هذا السؤال، وغيره أدخلني في رحلة مع ذاتي ومحاكمة، فوجدت أني وفقت إلى حدٍّ لا بأس به في أثناء رحلتي البنائية المادية والفكرية، واكتشفت أن هوايتي الرئيسة إلى جانب عملي هي الكتابة، وأنها ليست مهنتي، وأني تدرجت في أعمالي بين العام والخاص، واستقرّ بي المطاف كنائب في مجلس الشعب السوري، إذ انتقلت من خلاله لتعميق العمل في الشؤون العامة التي تجمع بين خدمة الدولة وخدمة الناس، ووجدت أن المسؤوليات ازدادت، ومعها ازداد الإصرار على الكتابة، وبشكل خاص في الشأن العام، إلى جانب تجربتي الشعرية التي عنونتها بالخواطر، وموسوعة فلسفة التكوين الفكري، وتناولي بعضاً من أبواب السياسة.
إن العيش بين الناس والاستماع للآلام والضحكات والمساعدة قدر الإمكان في تخفيفها هنا وإضافة المفيد لها فيه تشويق وإثارة لمتابعة الحياة، وأفضل بمرات من تلك الأكاذيب والثرثرات الفارغة التي تهدم بدل من أن تبني، وتؤخر من دون أن تدفع للتقدم.
لنتوقف عن قراءة غير المفيد، ولنتجه إلى كل ما له علاقة بالكرامة والسيادة والإنسانية والوطن والأمة، وما يغني ثقافاتنا ومعارفنا وما استفدناه من تجاربنا، وأخصّ هنا البناء الإيجابي في الحاضر والسعي نحو الأفضل المسكون في المستقبل.
تعالوا نطرد من أنفسنا كل مشاعر الحقد والانتقام، تعالوا نملؤها بالتسامح والمحبة والعمل الذي لا ينجح إلا بمساعدة الآخر، تعالوا نتعلم فتح الأبواب للقادمين وراءنا، وللصاعدين على سلالم الحياة خلفنا، فكلما صعدنا درجة أخليناها لقادم جديد، والأبواب وسيعة للناجحين واللامعين، وإن الصغار يكبرون بالكبار، والذين يخالفون هذه التعاليم يخالفون المنطق، ومنتهون إلى المهاوي الدنيا، لأنهم صغار في أثواب كبيرة.
تنتمي الكتابة إلى منظومة العلوم الإنسانية التي تقدمت كل العلوم، وأعتقد أنها تستحق مرتبة علم، لأنها غدت أكثر من موهبة، واحتلت مكانة المهنة أو الحرفة، ففيها كل مستلزمات العلم الذي يطوّر الوعي حول ما يعانيه مجتمعه، وطنه، إنسانه، والعالم يبقى محور الكاتب الإنسان، لأنه الجوهر، والواقع صنعة أحداث وتراكمات وغايات وشهوات، لذلك أجد أن كلمات الكاتب تجسد صوراً، يرسم فيها الآمال والأحلام والخيال، مسقطاً عنها الشك، بل يلغيه، مستنداً إلى الأمانة الذاتية بسلوك واعٍ وكرامة وافرة.
الكاتب عليه أن يقدم احتراماً للإنسان قبل احترامه للأجناس الأخرى، لأنه يكون بذلك قد احترم نفسه، وبالتالي منتجه منتج مهني، يصطف على جدول الجودة المقدّرة من الآخرين.
د. نبيل طعمة