اللغة والهوية
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ١٠ أغسطس ٢٠٢٢
تنجزان على صحراء التاريخ صناعة الحياة التي تبدأ من الإنسان السوي الذي يحولها إلى لغة ومن ثم إلى عمل بعد أن يشتغل عليها، يبَسّطها ثم يقلّبها، فتغدو بين يديه صحائف يجمعها ضمن كتب وهو مستمر، لأن طبيعته قامت على ذلك، ومازال يبحث وينقب من أجل تحويل رمالها إلى عمل، لأنه أراد أن يحيا ذاته، بل يحق له أن يحيا كل ذاته، مشروع له أن يمارس أبعاد الحياة، وأن ينتقي منها ما يزيد حضوره وعمره، وأن يعامل بمحبة وشرف ومساواة، وإذا عومل بعكس ذلك فله أن يفعّل لغته، وله الحق بل كل الحق بأن يحيا الحياة الرضية، وإذا فرض عليه السلم والشقاء معاً، فعليه أن يعايشهما إلى أن يخرج من ذلك، أو يستمر مع أحدهما، هذا هو الإنسان الذي نبتت فيه لغته، ومعها ظهرت منها شهواته التي أسعدته وأشقته، وانقسم بينهما واختلف عليهما.
مئات القرون مضت على وجوده الثرِّ، ينهل من بعضه، ويضيف عليه، ويحذف منه، ومضت أزمان، وستأتي مثلها، والبحث جار عن توصيفه وبدايته، فلم يترك فرعاً من فروع المعرفة إلا وبحث وتعمق به، ولم يزل يستكشف آفاق وجوده، هذا هو الإنسان الذي اجتمعت على صحراء عقله كل الأشياء، تزاحمت حتى كادت تمزقه إرباً إلى أن أخرجته منها، ليراها ويوصفها، ومن ثم يحولها إلى تعابير وأسماء، فكان الكون وكل الأشياء، لأنه ابن الحاجة التي احتاجها، فاصطدم بها بعد أن حول التعبير إلى استمرار؛ أي إلى ولادات فكرية علمية وعملية وجنسية.
هلّا تفكرتم في الكيفية التي اخترع الإنسان فيها لغته؟ هل فكر فيها وبمزاياها؟ وهل ولدت منه؟ وأجزم أن هذا مؤكد، لأنه لم يمتلك خيارات غيرها، وكيف بها تحولت إلى هويته التي اصطبغ بها، فكانت كل تطلعاته وأحاسيسه وتعابيره ومقاومته لكل ما يريد من جماد ونبات وحيوان والآخرين من جنسه، وهي التي تصنع حبه وكرهه ونجاحه وفشله، هل يمكن أن يكون إنساناً بلا لغة، بلا هوية، لا يمكن لأنه على مستوى متطور من الأجناس الأخرى بفضلها، وكينونته الخاضعة ضمن المستويات الانفعالية العقلية والنفسية والبصرية والسمعية، إذاً اللغة أهم جهاز يحول كل الأشياء المحسوسة المادية واللا مادية التي يشعر أو يفكر بها إلى وقائع وحقائق، منها ما يدوّن، ومنها ما يسقط إلى اللا معنى من اللغة.
الإنسان موسوعة حية، تحمل كل صفات الكائنات الحية المبدعة والبليدة، وفي الوقت ذاته تجده ليس متساوياً في الأبعاد، ولا في الألوان، ولا حتى في استثمار الأفكار، فمنه من يبقى عقله متصحراً، ومنه من يحوله إلى أخضر، ولكن بنسب قليلة، يستثمره بالدقة العلمية والعملية، لكنه في مجموعه يعيش إما عالة على المُنتج منه، وإما عالة على الطبيعة التي تحتضنه، لذلك كانت صحراء التاريخ هي بداية الإنسان ومساحاتها هي أوراقه التي دوّن عليها مجريات أموره ومسيرته التي تتشابه مع سباق التتابع، ومازالت مستمرة.
هذا هو الإنسان، كثيره يفكر بالنهايات، وهو كائن في البدايات، أو حتى لم يصلها بعد، ويتعلق بأجزائه لدرجة كبيرة لاستناده إلى الخوف، وقلبه تعلم الحب، فهمه وأدرك قيمته، فنجح وأنجح عمله الذي من دون هذه العلاقة يبقى متندراً شاكياً باكياً واقفاً في المنتصف، لا يرى سوى صحراء الماضي وسراب المستقبل.
الإنسان يسعى طوال عمره المعيش لتحقيق ما يأمله ويحلم به، واستعداده الدائم لشرائه والوصول للانتصار، أي انتصار بالحق، بالخير، أو شرائه بكرامة أو من دونها، ومن ثم يدونه على صفحات صحراء تاريخه، كي يلفت النظر إليه.
دققوا معي ولنجرِ مماحكة حول الذي أخطّه وأنتظر أجوبة مقنعة قاسية أو لينة، من صنع التاريخ..؟ هل الآلهة صاغته ضمن اشتراطاتها الفائقة الدقة؟ أم إن الشمس والقمر استمدا لغته من أخلاق النجوم؟ أم هذا الإنسان الذي نسج بداية، ولم يعرف حتى اللحظة أن يكتب النهاية، فأحالها إلى الشيء أو اللا شيء أو للذي ليس كمثله شيء؟
اللغة كتبت التاريخ، أخذت من طموح الأرباب وحزن الرسل والأنبياء من دماء شهداء النصر والعشاق والمخلصين للحياة والمنكسرين منها، فأنجزت للكل قراءة تلهب الأفكار وتدغدغها، فكانت معجزة الإنسان لغته، تداخلت مع معجزة القدر وعبقريته المظهرة لهذا الإنسان بكل ما فيه، فوضعت بعضاً منه على القمة، وسار كثيره بين السهول والهضاب، وسقط منه من لم يجدها إلى مهاوي البؤس والفقر أو التشرد والتسول.
إنها اللغة، تنطق وتكتب ماذا نهدف من حديثنا عنها، من يستحق حملها والتحدث عن منبتها، من يعيد لها ألقها من الناس؟ الساسة، أصحاب الفكر، المثقفون، المعلمون، اللغة؟ وما الغاية إلا تهذيب الفكر والحركة والإنتاج والإبداع، فما نراه أشياء أليمة تحدث اليوم للغتنا وهويتنا، ما احتمالات عواقب هذه الآلام الواقعة عليها؟ آمل أن نتفكر فيما ذهبت إليه، وأن نعمل للوصول إلى إعلاء شأنها، فهي هوية الإنسان.
د. نبيل طعمة