الله في التفاصيل
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٨ نوفمبر ٢٠٢٢
حقيقة حاول المتألبون والمخادعون أن يقلبوا الإيمان بالإنصاف وكشف الحقائق إلى رعب وخوف، وجعلوا من التفاصيل الصغيرة والمتناهية الصغر، والتي تشكل دلائل وبراهين ووسائل لاكتشاف الخداع والتلاعب والمكر والخبث شياطين يجب الابتعاد عنها وعدم الغوص فيها، لأنها تأخذ بالمتعلقين بها إلى مهاوي الفشل والسقوط في متاهات مرعبة وأودية سحيقة، قد لا يخرج منها المتعلق فيها، فالذين بثوا أن الشيطان يكمن في التفاصيل امتلكوا إرادة التعمية على الحق ومنع الوصول إليه.
تحت تأثير الفكرة التي أطرحها، وبعد أن استقرت في أفكار سواد مجتمعنا الذي أسكن في عقوله الكثير من المفاهيم المخلوطة واعتمادها كأساس لتعاملاته، ومن خلالها تعزز دور الشيطان، إن كان في التفاصيل أو بنسب الإبداع الإنساني إلى الفكر الشيطاني، فأن نقول شيطان الشعر وعن فكرة خلاقة إنها فكرة شيطانية، وإن كل إنسان يحمل شيطانه تحت إبطه أو في داخله، أجد أنه من الضروري فهم فكر الحق المتجسد في الخير والموت والمنتج الجيد والعمل الصالح، لأننا ومع اختلاط الفكر الديني بالفكر الدنيوي نجد أن التعزيز لفكر الشيطنة يكمن عبر غزو لكامل المصطلحات مثل شيطنة الدول والساسة والمجتمعات، وهنا أقول: ألا يجب إعادة النظر في هذه المصطلحات التي غدت على كل لسان، وأن نخضعها بملء الحق للتمحيص والمناقشة العقلانية؟ أم إن كثرة آثامنا وعندِنا ومكابرتنا تستدعي الشيطنة لتغطي بها على الحق والحقوق.
أجل إن التعابير الشهوية المثيرة هي موضوع اتهام وإدانة، لأنها تخرب الناموس الأخلاقي الفاضل لدى إنسان الحق، وتثير نباهة الحذر أكثر مما تستطيع فعله بالخطب والمواعظ، فكم تبهظ الحياة الإنسان الواقعي الحساس حتى لتلفظه في المجتمع والعائلة، فالطبقات المدعية وما أكثرها تتقمّص الإله والرسل على الأرض، وتتخذ من آلائها الدنيوية والروحية وسائل للسطو على فكر المجتمعات، وتلاحقهم بسياط الشيطنة والاتهام والانتقام حتى إنهائهم أو إبعادهم إلى غير مكان.
الأخطاء الهينة تكتشفها القوانين الوضعية، لأنها تكون مباشرة، أما الأخطاء الجوهرية فهي التي تحتاج للتدقيق والتمحيص والغوص في التفاصيل التي تأخذ بأي قضية للفصل بها بشكل إنصافي، كما حدث في قضية تاجر البندقية والمرابي شايلوك، وأجزم أن سواد أجيالنا قرأها دون أن تكتشف جوهرها الذي بحث به كثيرون من الحقوقيين والقانونيين، إلى أن أبدع بها محامٍ وتوقف عند رطلي لحم فقط، وأمام القاضي أعطى السكين لمرابٍ، وطلب منه أن يقطع رطلي لحم فقط، التفصيلة في "فقط" لأن فقط تعني ألا يكون هناك نقطة دم واحدة، ما أدى لفشل قضية المرابي ووصول بضائع التاجر الذي أعطاه حقوقه، ولم يتم التدقيق في هذه التفاصيل، كان فعلاً عملاً شيطانياً، إلا أنه ومهما بلغ من قوى الإخفاء فإن قوى الحق ستكشفه، وإن بعد حين، وهنا أجد نفسي أربط الحب بالجريمة والجريمة بالشيطان، كيف تكون معادلة بهذا الشكل، فالحب تفاصيل دقيقة إن لم ينتبه إليها تسقط سريعاً والإغراء والإغواء أفعال شيطانية، الحق إما أن ينهيها، أو يحاسبها، أو ينقذها مما هي عليه، لأنه لها الرشد والاستقامة بشكل أو بآخر.
إنها فئة قليلة أطلقت رصاص أفكارها وعواطفها الغريبة بغاية إشغال سواد البشرية وحرفها عن مساراتها الصحيحة، ما دعاني لأتخذها موضوعاً لحديثي اليوم، فإلهاء الناس بأفكار عبر مقولات وأمثال فتاكة تفتك في الجسوم، وتخرب أجهزتها الحيوية الداخلية دون دراية منها، يعني تمهيل الناس وإرخاء طاقات العماء على الأنوار، كي لا تتجه الناس إليها.
الله في التفاصيل، لأنه يجسد الإنصاف، وللأسف في يومنا هذا نجد أن الناس يهرعون إلى الشيطنة كفراش حول وهج الشيطنة، غايتهم الكسب منها والارتزاق من مخرجات العلاقة معها قدر المستطاع، حتى وإن كانت على حساب الحق والحقيقة، لكن الإنصاف أقوى، فهل ندرك ذلك؟.
د. نبيل طعمة