الليبرالية الجديدة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٥ أبريل ٢٠٢٣
حضرت من مفهوم الحرية "Liberty" العاقلة، وأقصد هنا أنها مشروطة بحكم وجود الآخر، هذا أولاً، وثانياً وبعد نشوء المجتمعات والدول وجدت الحدود التي يُعتبر أي تجاوز لها من الآخر اعتداءً، ليعني ذلك ضرورة امتلاكنا لمفاهيم الحرية الروحية والمادية، هذه التي تطورت إلى مفهوم التحرر "Freedom"، ليس من هيمنة الفكر السياسي التسلطي في عالم الشمال والغرب منه بشكل خاص على عالم الجنوب وحتى على مجتمعاته، إنما للتحرر من الفكر اللا أخلاقي والسلبي من الروحي الحقيقي والاجتماعي، لنجد أن المستفيدين من هذا العنوان: "Neoliberalism" هم قلة من سكان العالم، أما النسبة العظمى منه فلم تجلب لهم سوى المزيد من المعاناة والآلام والتبعية الخفية تحت مسمى نشر الديمقراطية الغربية ومبادئها التي تستند إلى استعباد البشرية تحت وهم الحرية وتطوير أفكارها.
وعندما نستعرض ماذا قدمت ديمقراطية عالم الشمال الغربي للعالم منذ قيامة العالم الجديد وحتى اللحظة، نجد أنها قدمت حروباً سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية، عبر إرهاب ممنهج يستخدم لغة الإبهار البصري وتتابع تطوير الأفكار الهدامة للبنية الفكرية، ولكامل مجتمعات العالم دون استثناء، معتمداً في نشره على وسائط تكنولوجيا المعلومات التي تتطور بسرعة هائلة، وتضخ تراكماً معلوماتياً يخدم أفكاره، والغاية استمرار نهب ثروات الشعوب وأفكارها وإخضاعها لسياسات الهيمنة بشكل ما يريدونه من الحداثة.
دعونا نسأل مبكراً: هل هناك ليبرالية قديمة؟ أقول نعم، تلك التي اعتمدت على الفلسفة السياسية، ويعود تاريخها إلى تصورات وضعها المفكر الألماني "إيمانويل كانط" في القرن الثامن عشر، صاحب المدرسة المثالية الألمانية، وفكرته القائلة: إن التحرر الأخلاقي أمرٌ جوهري بالنسبة للبشر، وبعدها رد عليه: "هيكل" مؤسس المدرسة الجدلية بمبدأ الحياة الأخلاقية، ورغم تأكيده أي "كانط" بأن الكائن البشري غاية، وليس وسيلة، ونستمع أيضاً إلى آراء كل من "جون ستيوارت ميل" و"مازيني جوزيبي" و"دور ويلسون" و"جون ماينا كينز"، وكل هؤلاء دعوا إلى الليبرالية الخاصة بفتح الحدود وتطوير شبكة رأس المال التي يجب أن تتقوى على الفكر "فوق القومي" ونشر التجارة والقيم الليبرالية الخاصة، التي تؤدي في اعتقادهم إلى تحقيق الرفاهية للدول والشعوب، ولكل الفاعلين في النظام الدولي وضمن المنظومة المتحكمة به، كانوا يؤسسون في جوهر الفكرة للوصول إلى العولمة، أي تحويل العالم إلى قرية صغيرة، ومن ثم الوصول إلى الليبرالية وتطويرها، وصولاً إلى ما يطرحونه الآن، وهذا يظهر لنا بدايات الصراع حول التكوين الأخلاقي والتكوين اللا أخلاقي، بين الشرق الذي جسد لاحقاً في الاتحاد السوفييتي، ومن ثم روسيا الاتحادية، والغرب الذي أسس كل المفاهيم التي تنهي الأخلاق الإنسانية، لمصلحة العلمية والمال الغربي، وكان هذا الصراع مع قيامة العالم الجديد، الذي استند إلى قوة المال على حساب الأخلاق، حيث بدأ من قيامة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1715، وصولاً إلى طباعة الدولار في عام 1776، مروراً في الثورات العلمانية، بدءاً من الثورة الفرنسية عام 1789، وصولاً إلى ما سرّبه ترامب خلال اعتلائه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، عندما تحدث علاقة بين العالم الروحي الذي يمثله عالم الشرق والجنوب برمته، والعالم المادي المتمثل في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
لقد استعمرت بريطانيا ثلث العالم، وأثرت في الثلث الثاني، وأبدعت في بناء التخلف لدى منظومة العالم الثالث بأسره، وحتى ضمن شعوب العالم الأول، والغاية دائماً الحفاظ على النخبة، وبانتقال جزء كبير من اقتصادييها إلى أمريكا الجديدة، استمر الذي حملوه ذاته معهم إليها، إنها نظام اقتصادي بدأ يتدحرج ويحكم العالم منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ويدعو إلى إطلاق حرية الأفراد وتقليص دور الحكومات في الاقتصاد، ويشجع على إزالة الضوابط على حركة رأس المال، أي خصخصته ومعاداة التنظيمات النقابية، فهو يأخذ شكل "الاقتصاد الحر" هذا النظام الذي تحول من أفكار قدمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما ذكرت ليظهر بشكل واضح وعلني في اجتماع باريس عام 1938، وبمشاركة مؤسسين من مبدعيه الفيلسوفين النمساويين "لودفيج فون ميسس" و"فريدريك حايك" وآمنا بأن الديمقراطية الاجتماعية والتطور التاريخي لدولة الرفاهية في بريطانيا يشبهان النازية، وأصدر كل منهما كتاباً اعتبر أساساً للفكر الجديد.
صراع خطير يجري بين أتباع الليبرالية القديمة التي جسدها المحافظون في كل من أوروبا وأمريكا "الحزب الجمهوري" والليبرالية الجديدة التي يصرّ الحزب الديمقراطي الأمريكي على نشرها وتعزيز فرص الصراع في العالم طبعاً، "وهما وجهان لفكر واحد وعملة واحدة"، ونراهم يسارعون لدعم مجتمعات الميم "المثلية الجنسية"، وتشريع القوانين المؤيدة لهم، واختراق المنظومات الأخلاقية التي قامت عليها الديانات عبر تعزيز اللغة الفردية، من خلال طرح الشعارات الخاصة بها ومحاولة تعميمها، وللمتابع الآن أن يدقق فيما نتحدث به، من خلال فرض شعاراتها في الملاعب الرياضية والدوريات والمسابقات الدولية والإعلام العالمي، الذي تسيطر عليه أمريكا والصهيونية العالمية، ورغم أن الفكرة موجودة في الأسرار عند كل المجتمعات، عربية أو غيرها في جميع القارات، ومحاربة من القوانين الوضعية والشرائع السماوية، إلا أنهم يصرون بتحويلها إلى واقع حقيقي، مستندين في ذلك إلى عهد النبي لوط، الذي انتهى بعهد النبي إبراهيم، وما نشهده اليوم من دعوات للعودة إلى الإبراهيمية في إقليم الشرق الأوسط، ما هو إلا تمهيد مرافق لإباحة هذه الأمور، وبالتالي السيطرة النهائية على هذا الإقليم وهذه الأمة، لأنها تعتبر مهد الحضارات ومهد الديانات، وبهذا تكون غايتهم العودة إلى ثقافة الأنا، ما يلغي لغة التسامح، ويعزز لغة الصعود حتى على أجساد الآخرين.
من خلال هذا يجد الباحث أن الليبرالية الجديدة تعتبر المواطنين بأنهم مستهلكون، وتُكافئ الجدارة، وتعاقب عدم الكفاءة، وتتجاوز الديمقراطية التي لا يوافق على مجرياتها، والتي أخذت تشقّ طريقها بحضور مارغريت تاتشر رئيسة الحكومة البريطانية، ورونالد ريغان رئيس السلطة الأمريكية، رغم أنه جمهوري، اللذين تبنيا كامل أفكار المذهب الجديد المتجلي في التخفيض الضريبي الهائل للأغنياء وسحق النقابات، وإلغاء الضوابط على حرية النشاط الاقتصادي للأفراد والمؤسسات، وتعزيز المنافسة في القطاع الخاص على حساب تقديم الخدمات الاجتماعية، ما أدى ومن خلال هذا النظام الجديد لخلق الأزمات الاقتصادية والأزمات السياسية، وعرّف الفقراء بأنهم فاشلون، ما خلق كثيراً من الاضطرابات في أنظمة الغذاء وحدوث الاكتئاب والشعور بالوحدة والقلق الدائم من فقدان العمل.
تحدث الرئيس الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية منذ سنوات عن خطورة هذا المذهب، لما يحويه من تطبيقات وآثار سلبية تسيء إلى بنية المجتمعات، وأكد ذلك في أحاديثه الحديثة، وكان متقدماً على كثير من القيادات العربية والدولية في فضح دور هذه المنظومة التي شبهها بعض من القيادات الكنسية بأنهم يريدونها ديانة جديدة، تنهي الديانات القائمة، ويتبعهم الآن قيادات إسلامية وبوذية وهندوسية ومسيحية، لذلك فمقاومتها وكشف حقيقتها أكثر من مهم وضروري، وخاصة أنها أخذت تغزو العالم بعد أن سيطرت على قسم مهم من الشعب الأمريكي بشكل خاص وأوروبا وتسويقها في كامل القارات بحكم بريقها الذي يدمج بين أفكار الحرية المدنية والمساواة، إلى جانب دعم العدالة الاجتماعية والاقتصاد المختلط، إنها تقضي على المصلحة العامة أو المجتمع، وتستبدله بمصطلح المسؤولية الفردية، أي إن كل فرد مسؤول عن نفسه وأفعاله وقراراته، ما أدى إلى ظهور التمرد على الضوابط الأخلاقية والروحية، وسمحت للمثلية بالانتشار، وأيّدتها بقوانين داعمة، تسمح بالزواج، وتمنع الاعتراض عليها أو إدانتها، وأيضاً سمحت بالتمرد على الروحانيات، ووصلت إلى اعتبارها نوعاً من أنواع الثقافة، يمكن رفضها أو قبولها، واعتبرت الأديان والأخلاق معوقاً من معوقات الحرية الفردية.
فالليبراليون يعتبرون أن المثلية الجنسية ليست شذوذاً، ويقدمون مبررات، أهمها أنها تحدث بين طرفين ناضجين متوافقين على الفعل، وحتى الغلمانية أي بين البالغ والقاصر يعتبرونها مرضاً، ولكن بمبرر اجتماعي، بينما المتوافقون عمرياً فوق سن البلوغ أو تحته فهي مؤيدة، إذ يضعون أسساً لثقافة ليبرالية جديدة، تجعل من حضورها ثقافة علمية إنسانية، يجب أن تسود العالم، أي إن مفهوم العلمية هنا والإنسانية شبيه بمصطلح "التحضّر" الذي ابتدعوه قديماً من أجل استعمار الشعوب والسيطرة على دولهم وعليهم، بحجة أنهم بدائيون، ويجب تطويرهم.
في النهاية، الليبرالية ظهرت مع قيامة العالم الجديد "بداية تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية" في القرن السابع عشر، حيث يعني في حقيقة الأمر اللا دينية وفلسفة التخلي عن الإله، وكان نيتشه قد أصدر كتاباً ضمّنه موت الإله الروحي وبداية عصر المادة، التي احتاجت إلى استعمار شعوب الأرض، من خلال إنهاء الأخلاق وتدمير البنية الفكرية للأديان، هكذا تعمل الليبرالية قديمةً كانت أم حديثةً.
د. نبيل طعمة