المحلّلون.. المعلّقون
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٩ مارس ٢٠٢٤
يظهرون مع الأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، وأثناء الحروب الصغيرة والكبيرة ولحظات وقوع الكوارث، أو مع الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، يستثمرون أفكارهم وقراراتهم، يروجون لها عبر شاشات التلفزة والمذياع، وأحياناً عبر الصحافة، وقد انتشروا في الآونة الأخيرة بكثرة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، يُتبعون اسمهم بعبارة محلل استراتيجي أو باحث أو كليهما معاً، يضخون في مسامع متابعيهم سرديات عدة، منها ما هو واقعي ومنها ما هو خيالي، منهم من يجافي الحقيقة ومنهم من يسعى ليكون نجماً، المهم أن هناك مساحة يجب أن تغطي الحدث سواءً أكان طارئاً أم أن له ابعاداً أم كان متصلاً مع الزمن لحين، وهنا لابد من الفصل بين المحلل الشرعي الذي يقدم نفسه كزوج بعد طلاق زوجين، يتزوج الزوجة ثم يطلقها ليعيدها إلى زوجها، وليس هذا المحلل المقصود في مادتنا هذه، والتشابه بينهما هنا يكون في عدم الأخذ بالمواصفات أو التدقيق فيها للشخص المحلل أو المعلق، وهذا بحد ذاته مدعاة لوضع معايير عالمية للتحليل السياسي أو الاقتصادي وحتى الاجتماعي، فالتحليل يستند إلى تراكم معرفي نوعي وإلى فهم في مجريات الحدث المطلوب الحديث عنه، أو أسباب حدوثه، ماضياً وحاضراً، فالتحليل الاستراتيجي هو ملكة إضافة لمعطيات أخرى تشير إلى ما وراء الأكمة، وبصيرة استقرائية تقارب الغد من الحاضر ومجرياته، فإذا ما حدث صراع أو نزاع فيجب أن يتمتع المحلل بأصول هذا الصراع وتطوراته واستقرائه وكيفية إنهائه، دون الاعتماد على التجارب الشخصية أو الاكتفاء بها أو الاستناد إليها، فالمشاهد يشعر في أغلب الأحيان بكثير من الحسرة أو المرارة عندما يتابع أسماء لامعة أو طارئة وهي تبسط المشهد، أو تؤكد بأن الأمور جيدة وأكثر من جيدة، في حين أن الواقع المعاش يخالف ذلك كثيراً، وكأنهم سذج وعاطفيون، أو أنهم منافقون ومداهنون لغايات وجدت في أنفسهم كما وجدت في نفس يعقوب.
صحيح ان الخطاب الشعبوي أحياناً ضرورة مهمة ومفيدة، لكن استمراره يتحول إلى نقمة كونه لا يمتلك الواقعية ويسقط في شعبويته، والمشهد الإعلامي، وبشكل خاص العربي منه، مازال مرتبكاً ويتراوح بين النقل اللا علمي والنقد الجائر والاعتراض المنتمي للآخر، وهو متفاوت المعلومة والمعرفة والشخصية الإعلامية الحاملة للحضور الجاذب، وعندما نؤكد على أن ظهور التحليل العربي بشكل قوي كان مع حضور ما أُطلق عليه الربيع العربي "الدموي"، الذي أرخى بظلاله على معظم الدول العربية، وبشكل خاص الجمهوريات منها، ومعه سقطت القيم في السياسة والاقتصاد والمجتمعات، وتداخل السياسي في الاقتصادي مع الاجتماعي، وتقدم المحللون، وعلى كافة الصعد، يخوضون غمار كل شيء دون استثناء، فهذا يتحدث عن الاقتصاد السريع وذاك يؤكد نهايتها ووقوع الخصوم في الفخ المعد جيداً، والكل سقط في مستنقع (لا حول ولا قوة) وفي الواقع تم دحض ما يسمى بنظرية الفخ والشراك والشباك دون وعي، ومن المفترض أن تُشكل القيم، بما تعنيه، من خلال الالتزام بالمعايير الإنسانية والوطنية والتدقيق في التعامل مع التحديات التي تواجهنا، سواء أكانت عدوانية أم سياسية أم أمنية أم اقتصادية.
ألا تعتقدون معي أن المشاهد أو المتابع أصبح يحتاج لمزيج من الصبر والشجاعة والتحمل، وهو يستمع أو يقرأ أو يشاهد التحليلات والتعليقات بغاية الوصول إلى الحقيقة التي يجدها مغيبة تماماً، الأمر الذي حوله إلى مأزوم وناقد، وأكثر من ذلك، ناقم، رغم مجاملاته أحياناً، لأنه يعتبر ما يتلقاه يلقي بوطأته على الواقع المتخبط، والذي يُحدث التشتت والغضب واللج الأجوف وعدم التسامح.
أعود إلى التعليق والمعلقين الذين يقع على عاتقهم التصدي للتطرف والتعصب والكراهية والإرهاب والاعتداء والعدوان والفساد والإفساد، مما يجب أن تكون له الأولوية الكبرى لكل الباحثين والمحللين والمعلقين والصحفيين، لحماية الوطن والمواطن، بدلاً من زيادة الحمل على الوحدة الكلية التي قد ترميه كما القشة التي قصمت ظهر البعير، ففي الديالكتيك قانون يقول: إن التراكمات الكمية تتحول في لحظة ما إلى تحولات نوعية، وهذا ما يتوافق مع مثل القشة "التي قسمت ظهر البعير"، الذي حمل رمزية أن زيادة الحمل يؤدي إلى رمي الحمل وسقوط الحامل، فأقوى البشر، وكذلك الحيوانات، إذا بلغوا أقصى قوتهم دون تحقيق ما يريدون نفروا أو فروا أو انتهوا، فإذا نفد الصبر وفار تنور الغضب فاض الكأس أو انفجر.
من كل هذا الذي قدمت أرى أن قيمة التحليل من قيمة المحلل أو الباحث، إن لم يصل إلى الجذر لا يستطيع أن يقدم ماهو مفيد، والمعلق إن أخطأ في قراءة النص فقد قدرته على التعليق، هي ملاحظات آخذها على نفسي قبل أن ألقي بها إلى الآخرين، وأدع كل ذلك برسم الإعلام، وأخص منه الجديد والمتطور الذي غيّر المفاهيم العقيمة التي سادت لعقود طويلة، وغيّر بنية الاتصال بين المجتمعات وحكوماتها، وأدى إلى توقف زمن التركيز الحكومي على المنجز، ليتم الانتقال إلى مشاركة الناس وتحفيزهم على الإنجاز المشترك وتحمل نتائجه.
د. نبيل طعمة