«المعمداني» ليست استثناءً: عن «دولة» قامت على الجثث
تحليل وآراء
الخميس، ١٩ أكتوبر ٢٠٢٣
تتجاوز المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني منذ بداية الحرب على قطاع غزة، وبشكل خاص مجزرة مستشفى "المعمداني"، حقيقة كونها إجراماً تقليدياً واكب تاريخ الكيان، وترجمة لعنصرية حاقدة تنطوي عليها نفوس القتَلة، لتشكّل أيضاً امتداداً لسياسة مدروسة وهادفة منذ ما قبل إقامة دولة الاحتلال عام 1948. وإذ تمثّل المجازر المرتكبَة اليوم أحد أساليب الحرب بما يؤمَل، إسرائيلياً، أن يخدم الأهداف التي رسمها العدو لنفسه، فهي لا تخرج عن "الاستراتيجية" التي شكّلت جزءاً أساسياً من مخطّط تأسيس الكيان وتثبيته.
والواقع أن استمرار هذه السياسة العدوانية في مرحلة ما بعد إقامة الكيان عام 1948، سواء ضدّ الشعب الفلسطيني، أو الشعوب المجاورة من لبنانيين وسوريين وأردنيين ومصريين، أو سائر المحيط العربي، ليس من قبيل الصدفة. إذ تكفي إطلالة سريعة على مسلسل المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين ولبنان والمنطقة العربية، لاستكشاف هذا التلازم الذي واكب تاريخ إسرائيل، ودلالته على أن تقتيل المدنيين يحتلّ حيّزاً مهماً في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وأنه ليس نتيجة جموح هذا المسؤول أو ذاك، بل هو مندرج ضمن استراتيجية عامة ترمي إلى تحقيق أهداف محدَّدة تتّصل بالمرحلة والسياقات ذات الصلة.
وفي هذا السياق، فإن المجازر المرتكَبة اليوم في غزة، إنما هي ترجمة لقرار اتّخذته القيادة الإسرائيلية؛ ولذا، يلاحَظ أنها رافقت الحرب منذ اليوم الأول، بل مثّلت العنصر الأبرز حتى الآن فيها. إذ بعد تجربة طويلة من الحصار والحروب المتتالية على القطاع، بدا للعدو أن الشعب الفلسطيني أكثر التصاقاً بمقاومته، بل هو مصدر قوتها وصمودها الذي مكّنها من إحباط كلّ المخطّطات الإسرائيلية والأميركية، وصولاً إلى «طوفان الأقصى». كما يدرك العدو أن كلّ هجماته الجوّية لم تستطع أن تدمّر قدرات المقاومة العسكرية والبشرية، ولا يُتوقّع لها أن تفعل ذلك في المرحلة المقبلة. من هنا، ارتأى تدفيع الشعب الفلسطيني ثمن انتصارات مقاومته، بانتقاله إلى مرحلة محاولة تهجيره إلى خارج القطاع. لكن هذا المخطّط يواجه عقبتَين أساسيتَين: الرفض الحاسم من قِبَل الشعب الفلسطيني، وأيضاً رفض مصر والأردن له، لما قد يترتّب عليه من تداعيات خطيرة في أكثر من اتجاه، بما فيها على الوضع الأمني في كلّ من الدولتين.
وعلى وقع ظهور بوادر فشل هذا المخطّط، أخرجت القيادة الإسرائيلية مخطّطاً بديلاً يصبّ في النهاية في الاتجاه نفسه - من دون التخلّي عن الأول -، وذلك عبر محاولة دفع الفلسطينيين القاطنين في شمال وادي غزة إلى جنوبه، لما يتّسم به الشمال من مزايا جغرافية تلعب لمصلحة المقاومة، ويأمل العدو أن توفّر له أرضية ميدانية من أجل إنتاج نوع من «الحزام الأمني» مستقبلاً في هذه المنطقة. وفي سبيل الوصول إلى ما تطمح إليه، يبدو أن جهات القرار في كيان الاحتلال قرّرت الارتقاء إلى مستوى أشدّ وحشية، عبر إعدام مقوّمات البقاء في القطاع وتحديداً في الشمال، والانتقال إلى استهداف المستشفيات من أجل إجبارها على الإخلاء، انطلاقاً من كونها لم تعُد آمنة، وسط رهان على أن تكون ردود الفعل الشعبية والسياسية في الدوائر الثلاث العربية والإسلامية والعالمية، عابرة ومؤقّتة وغير فعالة. وعليه، تواجه الشعوب والأنظمة والمؤسّسات تحدّي الحفاظ على وتيرة الرفض عينها للممارسات الإسرائيلية، والارتقاء بها إلى المستوى الذي يشكّل عامل ضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل.
لكن على رغم كلّ ما تَقدّم، فإن المحطّة الحاسمة في هذه الحرب ستكون العملية البرّية التي يستعدّ لها العدو. فهل هذا الاجتياح البرّي أصبح محسوماً ولا رجعة عنه؟ وما هي حدوده وأهدافه العسكرية؟ وما هي المفاجآت التي تحضّرها المقاومة في هذا المجال بعدما أظهرت مفاجآت تجاوزت الخيال الصهيوني؟ وأي نتائج ستترتّب على المواجهة البرّية؟ على ضوء الإجابات على كلّ ما تَقدّم، ستتّضح معالم المرحلة المقبلة، وما تحمله من متغيّرات ستترك تداعياتها على إسرائيل نفسها وعلى مستقبل الصراع برمّته على أرض فلسطين.
الأخبار