الهيمنة الأمريكية.. إلى متى؟
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٢ أغسطس ٢٠٢٣
بدأت تدخل العقل الأمريكي منذ ولادته مع بدايات القرن السابع عشر، ليكن قائداً وحيداً متفرداً لحكم العالم بقاراته الخمس، وللحق أقول إن العمل الجاد يمنح أي ساعٍ لتحقيق إنجازات وصناعة أمجاد له الحق أن يفتخر به، ومسار العقل الذي هاجر من أوروبا إلى أمريكا أنجز أولاً دولة الاتحاد الأمريكي بعد أن خاض حرباً ضمن أمريكا، والتي بدأت بثلاث عشرة ولاية، حرب الاستقلال الأمريكية 1775–1783، وحينها احتاجت لما يقرب من مئة عام حتى وصلت إلى الشكل الذي يسمى اليوم الولايات المتحدة الأمريكية، وتنامت قوته مع بدايات القرن التاسع عشر، وصولاً لدخوله الحرب العالمية الثانية التي خرج منها منتصراً، وبزعامته للغرب قام مباشرة بتأسيس حلف الأطلسي "الناتو" عام 1949، بناءً على معاهدة شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في واشنطن في 4 إبريل عام 1949،هنا أتفق مع حق الدول في بناء قواها على كافة المحاور الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية، وقد ذهب هذا العقل إلى تشكيل حلف الناتو الذي يعتبر نظاماً للدفاع الجماعي تتفق فيه الدول الأعضاء على الدفاع المتبادل رداً على أي هجوم من قبل أطراف خارجية "فمن هي الأطراف الخارجية"؟
ثلاثة من أعضاء الناتو (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة المتحدة) ،الاستعمار التقليدي السابق، هم أعضاء دائمون في مجلس الأمن الدولي، يتمتعون بـحق الفيتو، وهم رسمياً دول حائزة الأسلحة النووية، ويقع المقر الرئيسي لحلف الناتو في هارين بمدينة بروكسل في بلجيكا، في حين أن مقر عمليات قيادة حلف الناتو يقع بالقرب من مونس في بلجيكا، وبالمقابل تأسس حلف وارسو في 14 أيار 1955 بالعاصمة البولندية وارسو، وقد ساهم في ميلاد هذا الحلف دخول جمهورية ألمانيا الاتحادية إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في 9 أيار 1955، وهو ما رأى فيه الاتحاد السوفييتي آنذاك تهديداً جدياً، وطبعاً روسيا هي المكون الرئيس له.
تتكون المعاهدة التي تأسس من خلالها حلف وارسو من 11 بنداً، وقد حررت بأربع لغات هي: الروسية والبولندية والتشيكية والألمانية، وتنص على أنها مفتوحة لجميع الدول بغض النظر عن نظامها السياسي، على ألا يلتحق أي عضو جديد إلا بعد موافقة الدول الموقعة.
أبصرت الأمم المتحدة النور بشكل رسمي بتاريخ 24 أكتوبر من عام 1945، وذلك مع مصادقة جميع الدول الخمس دائمة العضوية، الصين وفرنسا والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وغالبية الموقعين الآخرين البالغ عددهم 46 دولة على ميثاقها، وبتاريخ 17 يناير 1946 اجتمع مجلس الأمن الدولي لأول مرة في تشيرتش هاوس بمنطقة وستمنستر في لندن.
حرب باردة نشأت بين الحلفين، وسباقات تسلح أدت إلى عواصف خطيرة تراوحت بين الهادئة والمستعرة، والأمريكي يتمدد في أرجاء العالم، يزرع قواعده في القارات الخمس بإرادة الهيمنة الكلية على العالم، وكان له ما أراد بعد فرط عقد الاتحاد السوفييتي عام 1990 وتدهور روسيا الاتحادية إلى حد كبير وتراجعها من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولعقد ونيف كادت الولايات المتحدة أن تصل إلى الهيمنة الكلية لولا استعادة روسيا الاتحادية قواها والعودة للوقوف أمام الوجه الأمريكي.
الأمريكي في بداية العقد الأول من القرن العشرين استشعر خطورة وضعه وظهور الرفض لسياسات الهيمنة نتاج، ليس فقط عودة ظهور روسيا الاتحادية كقوة عسكرية استراتيجية، إنما أيضاً ظهور الصين وتمددها الاقتصادي الهائل، ولم تدرك أمريكا أن الصغار يكبرون والكبار يشيخون مهما كانت معادلة فائض القوة إيجابية التي ربما تستدعي تطور الصلف والعنجهية والاعتداء على الآخر، ومعها لا بد أن يحدث التعلم لمقاومة هذا الصلف والسعي لإحداث التوازن معها أو اتحاد القوى الناشئة للتفوق عليها، لنتأمل الهيمنة الأمريكية التي كادت أن تصل درجة السيطرة المطلقة، لنجدها الآن تتآكل وتتقلص، وانحلال نظريتها، التي تستند إلى إزالة المخاطر عبر تفتيت وتفكيك الصناعات العالمية، تطورت إلى حد كبير، بل وأخذت تتفوق في كثير من مناحيها، وكذلك اعتمادها على ضرب سلاسل التوريد بين الدول، واستبدال دول بدول، أعطانا الدليل الواضح على بدء تقوقع وتراجع هذه الإمبراطورية، ومع ولادة منظومة (البريكس) يظهر التحدي الجاد في المسار الاقتصادي، وما طرح من التعامل بالعملات المحلية والبحث عن توليد بدائل للدولار الأمريكي أظهر ردود الأفعال المضطربة، والتي تراوحت بين الاستفزاز والاستياء والإنكار والاعتداء، وأعاد تشكيل الأحلاف، فالنظرة الأمريكية استندت إلى الأنانية المفرطة، واعتمدت على لوم الضحية وعدم الاكتفاء بمعاقبتها بكل أنواع العقاب، ومثلت هذه النظرة كامل الخطورة على الشعوب في القارات الخمس، وفي الوقت نفسه كانت الأنانية الأمريكية تستثمر في جذب الأبرياء عبر الأفكار البراقة الحاملة لكامل الخطورة من خلال اعتمادها في خطابها الإعلامي ،بكل أنواعه، الذي يسرب الأفكار الأمريكية إلى العقول البشرية، مثل الحرية والديمقراطية الليبرالية وما تحمله من وهم، لأن الغاية الأولى والأخيرة هي تفكيك الشعوب بعد ضرب أحلامها وقيمها وإيمانها، ونهب ثرواتها بعد السيطرة عليها، وبما أننا نقوم بنشر هذه الأفكار فهذا يعني أن الوعي البشري وصل حدود فهم أفعال هذه الإمبراطورية الأمريكية وأخذ يؤمن بأوطانه وبالعودة إلى مبادئه وقيمه، وفهم ضرورة الاعتماد على الذات، مما يعني أن عنواننا (الهيمنة الأمريكية) بدأ ينهار، وليس ببعيد أن نشهد ولادات جديدة نتمنى أن تكون منصفة للبشرية وأن لا تقع في مطبات الأنا الأمريكية.
د. نبيل طعمة