الى أين يمضي أردوغان بتركيا؟

الى أين يمضي أردوغان بتركيا؟

تحليل وآراء

السبت، ١٢ أبريل ٢٠١٤

كانت عوامل فوز رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في الانتخابات البلدية الأخيرة، غير خافية على أي أحد يملك اطّلاعا كافياً على الوضع الداخلي التركي، طبعاً بشرط إهمال آراء المحللين السياسيين الذين يتعاطون مع كل حدث من منطلق ما يتمنونه لا بما يقتضيه الواقع.
كان من الواجب التنبه واستقراء الواقع بتجرد، خاصة بعد إعلان أردوغان أنه سيعتزل الحياة السياسية في حال خسارة حزبه الانتخابات البلدية؛ الى ماذا استند الرجل الذي بات يعتبر نفسه الحاكم الأبدي لتركيا حتى أحرق سفنه بهذه الجرأة؟ وهو الذي يعتبر أنه “الأتاتورك” الجديد ولكن بلبوس السلطان سليم العثماني. هل ضمن الرجل استمرارية حكمه على حساب المصالح العليا للأمة التركية؟
لعل ما يوضح ذلك بعض الملفات الأساسية التي قام رئيس الوزراء الإسلامي منذ وصوله الى السلطة باستثمارها في نطاق المصلحة الضيقة لطموحه الشخصي ولحزبه، متجاهلاً المصالح العامة التركية في المستقبل.
  الاقتصاد

يشكل النمو الاقتصادي الذي تحقق بعد وصول “حزب العدالة والتنمية”، العامل الأهم والأقوى في الدعاية التي يتوجه بها الحزب الى الداخل التركي، وهو الجوهرة الثمينة التي لم يفوّت الحزب فرصةً واحدةً لعرضها والتباهي بها.
فالمواطن التركي العادي لا تهمّه المعادلات الدولية بقدر ما يهمّه تطوير دخله والخدمات التي يحصل عليها. كما لا يمكننا إغفال النهضة الشاملة وتضاعف مستوى الدخل السنوي للفرد، والتي تحققت بعد وصول “العدالة والتنمية” إلى السلطة بعد عقود من الانقلابات وانعدام الاستقرار الذي حقق لتركيا نقلة نوعية حال تحققه.
ترافق ذلك مع التركيز الكبير لحكومة “العدالة والتنمية” في العقد المنصرم، على القضايا المعيشية اليومية، بدءاً من أزمة المياه والمواصلات والسكن والتعليم والصحة.
  ماذا خسرت تركيا؟

صوّرت الدعاية الأردوغانية النهضة التركية على أنها مكافأة إلهية لتركيا كونها اختارت الإسلاميين للحكم، وأن النمو الذي حصل كان سببه الإصلاحات الاقتصادية وارتفاع الصادرات التركية، خاصة الى العالم الإسلامي والاستثمارات الأجنبية التي تدفقت الى قطاع السياحة والخدمات والنقل وغيرها، بعد الاستقرار السياسي الذي تحقّق.
العوامل السابقة وإن كانت من أسباب النمو عامة، لكن السبب الرئيسي في الطفرة النقدية التركية كان سببها قيام الحزب الحاكم “ببيع” تركيا إلى الخارج مترافقة مع عمليات اقتراض من الخارج والداخل ضاعفت الدين العام التركي ثلاثة أضعاف عما كان عليه قبل وصول “العدالة والتنمية” للسلطة.
فقد تمت خصخصة الجسور والطرق الدولية، كما تم بيع أصول شركات التوليد والطاقة والكهرباء والمنشآت المشابهة حتى وصل الأمر الى بيع 42% من أصول أهم المصارف التركية الحكومية (هالك بنك)، ما وفر للحكومة فائضاً مالياً ساعدها على الحفاظ على الانتعاش الاقتصادي.
بالاضافة الى الخصخصة، اعتُمد كثيراً على الاقتراض من الخارج وتصوير هذه الأموال على أنها من عائدات النمو الاقتصادي ونتاج لتدفق الاستثمارات، بينما الواقع أن الدين الخارجي التركي ارتفع من 100 مليار دولار عام 2000 الى 307 مليارات دولار عام 2011 (تقرير البنك الدولي حول إحصاءات الديون الدولية سنة 2013 الصفحة 284 ـ 285). والنقطة الأخطر أن حوالي 70% من هذه الديون هي ديون طويلة الأمد ولم تدخل فترة السداد بعد.
كما قفز الدين الداخلي إلى رقم قياسي بلغ 191 مليار دولار، ليصل إجمالي الدين الداخلي والخارجي الى حوالي نصف تريليون دولار تقريباً، في بلد أدت السياسات الاقتصادية التي اتبعها حزب “العدالة” الى تخفيض تصنيفه الائتماني لعدة مرات كان آخرها عشية الانتخابات حيث تم تصنيفه ائتمانياً بدرجة BB- بحسب مؤسسة “ستاندارد اند بورز الأميركية”، التي وصفت الأفق المستقبلية لهذا الاقتصاد بالسلبية.
لا يمكن بأي حال إغفال حجم الأموال الطائلة التي تدفقت على تركيا ابان انهيار العراق وتفتيته والأزمة السورية لاحقاً، ما جعل تركيا الموطن المفضل لمعظم الاستثمارات ورؤوس الأموال الهاربة من أتون الحرب في البلدين، والتي يبدو أن لتركيا مصلحة مباشرة في استمرار حالة اللااستقرار السائدة فيها. بالاضافة الى لعب تركيا دور المتنفس الإيراني من العقوبات الغربية طيلة الفترة الماضية، وهذا ما يعتبر وضعاً شاذاً لن يستمر الى الأبد، خاصة بعد إعادة فتح القنوات الغربية الإيرانية وإعادة بناء الدولة العراقية وإن كان بوتيرة بطيئة؛ وعاجلاً أم أجلاً ستفقد تركيا الدور الذي حقق لها مكاسب كبيرة على حساب الدمار والأزمات في البلدان الأخرى.
الترجمة العملية لما سبق تعني أن الأفق الاستثماري في هذا البلد غير مطمئن، حيث إن ما أُنجز حتى الآن لا يمكن أن يُصنّف تحت بند التنمية المستدامة.
كما أن رهن اقتصاد بلد بكامله للاستثمارات يحتاج استمرار نموه الى بيئة تتمتع بالاستقرار السياسي والأمني؛ وهذا ما يبدو أن تركيا ستفقده في ظل حالة الاستقطاب غير المسبوقة التي تسبب بها أردوغان مع معارضي سياساته في الداخل والخارج. ما دفع الكثير من المحللين الاقتصاديين إلى القول، إن تركيا حين لن تجد ما يمكن بيعه مستقبلاً مع استحقاق الديون الآجلة، فإنها ستكون في طريقها الى الانهيار نفسه الذي حصل في اليونان، التي صنّفت اقتصادها حالياً المؤسسة المذكورة أعلاه بالاقتصاد المستقر بعدما تم تدارك الأزمة اليونانية، ولكن بفاتورة يونانية وأوروبية مرتفعة من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي لن يرغب بدفعها مجدداً مع مرشح للانضمام مثل تركيا.
  القضية الكردية: كيف استغلها؟

فاز “حزب العدالة والتنمية” في الانتخابات التشريعية سنة 2011 بأكثر من 50% من الأصوات وبمعظم مقاعد البرلمان (325 مقعداً من أصل 550) وهي النسبة التي خوّلته تشكيل الحكومة منفرداً. لكنه لم يحصل على نسبة الثلثين التي تخوّله تعديل دستور 1980 للوصول الى هدفه الأسمى وهو القصر الرئاسي، وهذه النسبة لن يستطيع تحقيقها من دون الأصوات الكردية (37 نائباً) فأعلن في العام التالي عن بدء التفاوض من أجل حل القضية الكردية.
ولهذه الغاية أرسل رجله المقرب رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان، لبدء التفاوض مع زعيم “حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان، واضعاً نصب عينيه بالإضافة الى كرسي الرئاسة، تحقيق إنجاز تاريخي شخصي لم يسبقه إليه حتى مصطفى كمال أتاتورك نفسه، وهو حل القضية الكردية التي استنزفت من المجتمع التركي عشرات آلاف الأرواح ومئات مليارات الدولارات في العقود السابقة.
  المأزق الآتي

يظن الكثيرون أن ما يقوم به أردوغان هو تكرار لما قام به أتاتورك عندما وقّع على “اتفاقية سيفر” 1920 التي تنص على إقامة كيان كردي. عندها قام أتاتورك بالمماطلة مع الأكراد حتى استقرت أوضاع الدولة العثمانية وأقنع المؤتمرين في مدينة لوزان السويسرية لاحقاً بالتخلي عن فكرة الكيان الكردي واستبدالها بالحقوق الثقافية واللغوية.
وما إن ضمن أتاتورك الدعم الغربي حتى انقلب بعدها على ما اتُّفق عليه في “سيفر” وحتى في لوزان، ما أدى الى اشتعال الكفاح المسلح الكردي ضد أتاتورك الذي قمع الثورة تلو الأخرى حتى وفاته واستلام سلفه عصمت اينونو السلطة من بعده.
رغم أن حسابات أردوغان، بما يخص القضية الكردية، هي حسابات سلطوية بحتة، إلا أن المعارضة التركية القومية ترى بالوعود الأردوغانية للأكراد خيانة لتركيا ستفتح الباب أمام تقسيم تركيا، بالإضافة الى أن “حزب العمال الكردستاني” وبعد انخراطه في المفاوضات مع الحكومة التركية وإعلان انسحاب مقاتليه نحو الجبال، أوقف عملية الانسحاب بسبب عدم جدية الحكومة التركية في تنفيذ وعودها؛ فهناك تاريخ طويل من انعدام الثقة بين الطرفين لن يُمحى بسهولة.
ولعل أكبر التحديات المقبلة أمام أردوغان تتمثل بنتائج الانتخابات المحلية الأخيرة حيث فشلت خطته في استقطاب الأكراد عن طريق استقدام الزعيم الكردي مسعود البرزاني الى ديار بكر نهاية العام الفائت. اللقاء الذي وصفته الصحف المؤيدة لأوجلان بأنه “لقاء بين زعماء عصابات” وأنه لا سلام من دون “حزب العمال” وزعيمه أوجلان.
وبالفعل، فقد أتت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة بمثابة مفاجأة صاعقة، فهذه المرة أعطى الأكراد أصواتهم أكثر من أي مرة سابقة إلى الأحزاب الكردية، وتحديداً “حزب السلام والديموقراطية” الواجهة السياسية لحزب “العمال”. فمن أصل 4 مدن رئيسية فاز “حزب السلام والديموقراطية” في ثلاث مدن. وطبعاً كان فوزهم على حساب “العدالة والتنمية”.
هذه النتيجة تؤشر الى أن أردوغان لن يستطيع العودة الى الخلف وأنه وقع بين المطرقة الكردية والسندان القومي، ما يهدد بإعادة تركيا الى السيناريو الدموي مع الأكراد إذا التفّ على وعوده أو ماطل بها أكثر، أو الى صدام لن يقل خطورة مع القوميين إذا نفّذها.
  ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي

على عكس ما سبق، يشكل هذا الملف خسارة صافية لأردوغان وتركيا سوية. ويرى الكثيرون أن رئيس الوزراء مضى بتركيا بعيداً عن الحلم الأوروبي، الذي يمثل إحدى أهم الرغبات المحفورة في الوجدان التركي، والتي كرّسها أتاتورك كهدف أسمى للجمهورية. إذ لم يتوقف سيل الانتقادات الأوروبية لتركيا بخصوص تقييد الحريات الأساسية وانتهاكها.
وقد بلغت هذه الانتقادات ذروتها إبان اشتعال أحداث ميدان “تقسيم” والقمع الذي مارسته الحكومة ضد المحتجين، بالإضافة الى فضائح الفساد التي طالت أعضاءً في “حزب العدالة والتنمية” ووزراء وقياديين في الحكومة. ولم تُستثن من هذه الفضائح حتى عائلته.
ولعل أهم التعليقات التي تناولت ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي هي التصريحات التي صدرت عن قيادي في الحزب الحاكم الألماني عبّر فيها عن دهشته من التهديدات التي أطلقها أردوغان ضد المعارضة بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة: “يتضح بالتدريج أن “تركيا أردوغان” لا تنتمي إلى أوروبا”.
وآخر ما فاجأ به أردوغان العالم هو إعلانه عدم احترامه لقرار القضاء بخصوص رفع الحظر عن موقع “تويتر” رغم إعلانه الالتزام به. أمر يطرح تساؤلات عن مستقبل العلاقة بينه وبين مؤسسة القضاء التي لن يرضى الكثير من منظري الدولة التركية أن يصيبها ما أصاب غيرها من المؤسسات في عهده (المؤسسة العسكرية مثالاً).
  - تركيا والأزمة السورية:

- أقحم أردوغان تركيا والجيش التركي للمرة الأولى في الأزمة السورية مباشرة، حيث فتح الجبهة الشمالية لمدينة اللاذقية وفتح الحدود أمام “المجاهدين”، الذين تبين ان انتماء غالبيتهم هو لـ”جبهة النصرة” وتنظيم “القاعدة”.
- وقدّم الجيش التركي التمهيد الناري المباشر الذي سمح لقوات المعارضة باحتلال منطقة كسب في شمال سوريا، وما حولها. كانت خطوة في غاية الخطورة قام بها أردوغان لتشتيت الانتباه عن فضائح الفساد وحرب التسريبات التي سببت لحزبه حرجاً كبيراً، واللعب على المشاعر القومية. فقد أعلن عن إسقاط الطائرة السورية خلال مهرجانه الانتخابي وهنّأ الجيش التركي من دون انتظار بيان الجيش نفسه حول الحادثة.
هذا التدخل المباشر الذي قام به رئيس الوزراء التركي لغايات انتخابية بحتة، كانت له ارتدادات كبيرة لم تكن في الحسبان وأهمها:
  - المأزق الأرمني:

أثار اجتياح منطقة كسب في شمال اللاذقية القضية الأرمنية من جديد أمام الرأي العام العالمي وبشكل غير مسبوق، ونسف الجهود التركية خلال الخمسة عشر عاماً الماضية لإغلاق هذا الملف الحساس في العلاقة التركية الأوروبية، خصوصا مع اقتراب ذكرى المجازر الأرمنية في 24 نيسان الحالي. ولا تزال كسب محتلة من العناصر “التكفيرية” ويغلب عليها العنصر الشيشاني القريب من تركيا التي دعمتهم سابقاً في حربهم ضد الروس.
  - لواء اسكندرون:

لم ينتظر أهالي إقليم لواء اسكندرون طويلاً لمعاقبة أردوغان على خياراته السورية حيث فقد الأخير سيطرته على الإقليم في الانتخابات الاخيرة لمصلحة “حزب الشعب الجمهوري”، ما يجيب عن التساؤلات السابقة حول علاقة أهالي الإقليم بالأزمة السورية. وتشكل مؤشراً واضحاً على عدم رضى السكان على تحويل رئيس الوزراء مدنهم وقراهم الى مناطق عمليات عسكرية ضد سوريا؛ لا مناطق إغاثة وإيواء كما كان يدّعي دائماً وزير خارجيته أحمد داود أوغلو، رجل الكواليس والعقل المدبر للكثير من السياسات التركية، خاصة بعدما فضحته التسريبات الأخيرة عن دور خطير تقوم تركيا بمحاولة لعبه في سوريا.
كانت هذه النتائج المباشرة تتويجاً للفشل الأردوغاني في سوريا؛ فبعد خسارة أردوغان رهانه على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وضم سوريا التي تشكل بوابة العبور الأساسية إلى العالم العربي، الى منطقة نفوذه، وبعد التوتر الكبير الذي أصاب العلاقات بين أنقرة وبغداد بسبب التدخل التركي في كردستان، عاد ليخسر أهم حليفين عربيين وهما مصر والسعودية بعد السقوط المدوّي لـ”جماعة الاخوان المسلمين” في مصر وإدراج السعودية لها على قائمة الإرهاب الى جانب “القاعدة” وتنظيم “الحوثيون”، ما بدد الحلم الأردوغاني بتزعم العالم الإسلامي.
وبالرغم انه وصل إلى كل بيت عربي في الأعوام الماضية، لا يخفى على أحد الضرر الذي تعرضت له “العلامة التجارية” لأردوغان، حيث لم يعد يُذكر اسمه مقروناً بالاحترام، إلا في خطبة الجمعة للداعية يوسف القرضاوي، وفي قطاع غزة لدى حركة “حماس” التي اعتبرت فوز أردوغان نصراً لها، ما يطرح سؤالاً جديداً: هل يقرأ رئيس الحكومة الانتقالية في غزة اسماعيل هنية، ما يحصل في المنطقة؟
 - الموقف الإيراني:

المتابع للسياسية الإيرانية يعلم جيداً أن الصمت الإيراني عادة يحمل الكثير. وفي ضوء هذا الصمت، يبدو أن الإيراني ينتظر توضح الموقف التركي بعد الانتخابات لتبيان ماهية هذا التدخل؛ هل كان نزوة انتخابية أردوغانية؟ أم هو تغيير في قواعد اللعبة يحاول المحور التركي – القطري فرضه على الحدود الشمالية لأهم حلفاء إيران في العالم في ظل تراجع المحور القطري وما يمثله في المعارضة السورية لمصلحة السعودية التي تقود الملف حالياً؟
الأشهر المقبلة لن تكون سهلة على الإطلاق، وفي ظل التردد الغربي بدعم المعارضة التركية المشتتة قد يستطيع أردوغان الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة على مبدأ “لسنا الأفضل ولكننا الوحيدون”.
ولكن كيف سيخرج تركيا من جميع المآزق التي أوقعها بها، خاصة أن جميع القضايا السابقة تتفاقم وبتسارع أكبر من ذي قبل، وهي مرشحة للانفجار في المرحلة المقبلة في ظل عدم جدية أردوغان ومحاولة الالتفاف عليها بدلاً من حلها.