بين «الحماقة التركية» و«الفوضى» الأمريكية!.. بقلم: جلال عارف
تحليل وآراء
الأحد، ٢٠ أكتوبر ٢٠١٩
لم يكن اختيار مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي، للذهاب إلى تركيا بحثاً عن حل للخروج من المأزق الذي تسبب فيه الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس التركي أردوغان في شمال شرق سوريا، اختياراً عشوائياً، بل كان الاختيار الذي تفرضه حقيقة أن العامل الأساسي في كل قرارات ترامب هو الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن العامل الداخلي هو ما يهمه، وأن الحفاظ على قاعدته الانتخابية له الأولوية القصوى.ومن هنا كان اختيار بنس مقصوداً، لأنه الممثل الأساسي في الإدارة الأمريكية للتيار الإنجيلي المتشدد الذي يمثل جزءاً مهماً من القاعدة الانتخابية لترامب، والذي أبدى معارضته لقرار ترامب بالانسحاب من سوريا والتخلي عن الأكراد السوريين، وكان اختيار بنس لمفاوضة أردوغان بمثابة رسالة طمأنة لهذا التيار الإنجيلي، عززها ترامب بتسريب رسالة إلى أردوغان الذي نصحه فيها بألا يكون «العنيد الأحمق»!!
الحماقة التركية في قرار أردوغان بغزو شمال سوريا أمر لا شك فيه، وهو أمر ليس جديداً على السياسة التركية في ظل أوهام أردوغان التي وضعت حكمه على شفا الهاوية، وقادت تركيا إلى أزمات طاحنة لن تكون الأزمة حول سوريا هي آخرها. لكن في مقابل «الحماقة التركية» كانت هناك «الفوضى» الأمريكية التي كشفت عمق أزمة الحكم التي تمر بها الدولة الأعظم. صحيح أن ترامب يمر بظروف صعبة مع التطورات الخاصة بعملية عزله من منصبه التي بدأ مجلس النواب في إجراءاتها، لكن احتمالات العزل ما زالت بعيدة، وهناك رؤساء آخرون مروا بظروف مماثلة أو أسوأ، رأينا منهم نيكسون مع «فضيحة ووترغيت» التي انتهت باستقالته، ورأينا كلينتون وفضائحه الجنسية التي نجا منها بمعجزة، بعد أن وصل الأمر للتصويت في مجلس الشيوخ الذي يحتاج القرار فيه بهذا الشأن لأغلبية الثلثين!! لكن - في كل الحالات - كانت مؤسسات الدولة قادرة على الإمساك بزمام الأمور، وكانت عملية صنع القرار تحتفظ بسلامة آلياتها لتغطي على أي ظروف يمر بها الرئيس.
هذه المرة يبدو الوضع مختلفاً، والارتباك لا سابقة لها، قرار الانسحاب من سوريا أصدره ترامب وهو يملك بالطبع السلطة في ذلك، لكن ما صاحبه من كشف لغياب أو تغييب رأي معظم مؤسسات الحكم أو مفاجأتها به كان صادماً حتى لأقرب أنصار ترامب!! ثم ازداد الأمر سوءاً مع التضارب المذهل في مواقف الرئاسة. في أيام قليلة كان الترمومتر يتذبذب بين «الأكراد حلفاؤنا» و«الأكراد أسوأ من داعش»!! وكانت المواقف تتغير من «سنسحب خمسين جندياً فقط» إلى «ما الذي يبقي جنودنا على بعد سبعة آلاف ميل»!! وفي عز الأزمة كان واضحاً أن الوزراء الكبار في الإدارة الأمريكية مشغولون بالتعامل مع غضب المختصين المحترفين في وزاراتهم، وفي المقدمة منهم الجنرالات والدبلوماسيون، ولهذا بدا صوت الخارجية والدفاع خافتاً تاركاً الساحة كاملة لتغريدات ترامب وتصريحاته المتضاربة.
ومع خفوت صوت كبار المسؤولين في إدارة ترامب، كان الصوت يرتفع في «الكونغرس» بمجلسيه. ولم يكن بوسع «ترامب» أن يستمر في الادعاء بتآمر الديمقراطيين عليه، فقد كان أبرز النواب الجمهوريين ينضمون للديمقراطيين في معارضة قرارات ترامب بشأن سوريا ويصعدون من الموقف ضد الغزو التركي.
والأهم عند ترامب كان اهتزاز التأييد عند قاعدته الانتخابية التي يراهن عليها دائماً، والتي كان يعتمد على حماسها للتوجه نحو سحب الجنود الأمريكيين من الخارج، تغير الأمر هنا عند قطاعات كبيرة «مثل الإنجيليين المتشددين» سواء لأسباب إنسانية تتعلق باحتمال أن يتحول الأمر لمذبحة يرتكبها الأتراك والجماعات المناصرة لهم، أو بعودة الدواعش بعد أن أثبتت الأحداث أنهم مازالوا موجودين رغم أحاديث ترامب عن القضاء عليهم، أو لأسباب سياسية تتعلق بـ «الدولة الأعظم» التي وعد ترامب بالحافظ على تفوقها، فإذا بها تنسحب من العالم دون أن تضع حساباً لتكاليف الانسحاب في حسابات القوة وصراع التفوق!!
في ظل هذه الظروف أرسل ترامب نائبه إلى تركيا حيث كان أردوغا» يصعّد من مواقفه الكلامية بينما يدرك أن مغامرته لا يمكن أن تنجح أمام معارضة تشمل العالم كله وعقوبات قد تشل اقتصاده المنهك، ليكون التفاوض بين الحماقة التركية والفوضى الأمريكية وليكون الاتفاق على الإيقاف المؤقت لإطلاق النار الذي يجري تسويقه من جانب واشنطن على أنه إنقاذ للأكراد من المذبحة دون ذكر لمن أعطى «الكارت الأخضر» للرئيس التركي أردوغان ليبدأ المأساة الأخيرة، كما يجري تسويقه من جانب أنقرة على أنه انتصار ليس له مثيل دون ذكر، إلا أن أبرز النتائج حتى الآن أن ثلاثة أرباع الحدود الشمالية تحت سيطرة الدولة السورية وأن الوجود التركي على أراضي سوريا لن يكتسب أي شرعية بالاتفاق مع أمريكا أو غيرها!!
في أمريكا.. لن تغلق الصفحة، أعضاء الكونغرس ماضون في قراراتهم لإدانة قرار الانسحاب من جانب ترامب وتوقيع العقوبات على تركيا، رئيس مجلس النواب بيلوسي وصفت الاتفاق الأخير بأنه «عار» وأنه رسالة لكل حلفاء أمريكا بإمكان تخليها عن مسؤولياتها تجاههم. والأخطر هو التساؤل من جانب زعماء الكونغرس من الحزبين: لماذا تكون نتائج سياسة ترامب دائماً لصالح روسيا؟! وكيف يمكن أن نحمي مصالح أمريكا في الخارج ونحن نرفع شعار «الانسحاب» بينما المنافسون يتقدمون لاحتلال المواقع التي كنا فيها؟!
وفي تركيا. سوف ينفض «المولد» عن لا شيء. وسوف يكتشف الأتراك أن المعركة الحقيقية هي على أرضهم، حيث التكلفة الباهظة التي تتحملها تركيا بتحالف أردوغان مع عصابة الإخوان، والجري وراء أوهامه في استعادة الإمبراطورية العثمانية عن طريق الإرهاب والاتجار بالدين الحنيف. ويبقى السؤال الحقيقي: هل يمكن للعرب أن يتجاوزوا الحماقة التركية والفوضى الأمريكية، وأن يبدأوا من نقطة الإجماع على الوقوف مع سوريا، لكي يمضوا في الطريق حتى نهايته: أن نترجم هذا الإجماع إلى فعل حقيقي يستعيد سوريا وينهي الغياب العربي؟!