تأملات في مشهد «عض الأصابع».. بقلم: محمد خالد الأزعر
تحليل وآراء
الخميس، ٥ أكتوبر ٢٠٢٣
في منتصف سبتمبر الماضي قال ينس ستولتنبرج، أمين عام حلف الناتو، بأنه لا يرى نهاية قريبة للحرب في أوكرانيا، و«علينا أن نهيئ أنفسنا لحرب طويلة الأجل». صيغة الجمع التي نرجح أن الرجل يقصد بها مخاطبة كل دوائـر عالم الغرب، تناسب من الناحية الشكلية التحليل الروسي لطبيعة ما يجري في الميدان الأوكراني، ومفاده أن «موسكو تواجه الغرب برمته».
وللمفارقة فإن هذه الصيغة ذاتها تبدو كنسخة كربونية لمنظور القيادة الأوكرانية، فالرئيس زيلينسكي وحكومته يعرضون الحرب على أنها «صراع بين الشرق والغرب، بل وتمثل نمطاً من تدافع أكبر بين آسيا وأوروبا». هذا الفهم هو الذي يفسر إلحاح كييف على التعجيل بإلحاقها بأطر ظهيرها الغربي ومؤسساته الأشهر، الناتو والاتحاد الأوروبي، لا الاكتفاء بدعمها عن بُعد والاحتفاظ بمسافة معها.
أيعني ذلك أن كلاً من ستولتنبرج (الناتو) وموسكو وكييف، يقاربون طبيعة هذه الحرب ومغزاها ودلالاتها بمنظور واحد؟!. هذا صحيح طبقاً للوهلة الأولى وتقديرات الرؤى البانورامية العابرة، بيد أن هناك من المعطيات التي تستدعي التأمل ملياً في التفصيلات، التي قد تسعفنا ببزوغ تأويلات وإدراكات مغايرة نسبياً لدى بعض الأطراف.
لاسيما الأوروبيين وبيئتهم الداخلية، فإذا أخذنا استطالة أمد الحرب بعين الاعتبار، وما نتج عن ذلك من سياسات ومواقف، فقد يتراءى للمتابع عن كثب أن التحليل الذي تتبناه موسكو يظل وحده تقريباً الأكثر ثباتاً واستمرارية. وهذا على خلاف ما اعترى المشهد في الجبهة الأوكرانية الأوروبية الغربية من تشققات وصدوع، بعضها ظاهر، وبعضها خفي، وذلك إلى الحد الذي يصح عنده إعادة النظر في دقة التعبير عن هذه الجبهة بصيغة الجمع، التي يتعامل بها السيدان ستولتنبرج وزيلينسكي.
يؤشر إلى هذا التصور، مثلاً، التغيرات التي نالت بشكل ملحوظ من سياسات الشركاء الأوروبيين خلال الشهور التسعة عشر الماضية، فعند بداية الحرب أظهر هؤلاء التزاماً حماسياً بالتنسيق والعمل الجماعي الصلب، في مواجهة ما اعتبروه نذيراً بمحاولة الهيمنة الروسية المشفوعة باستخدام القوة، التي لا ينبغي السماح لها بالمرور والانتشار أوالتمدد غرباً في رحابهم القارية، وعليه رأينا السخاء المفرط في مساندة الجانب الأوكراني، بالسلاح والمدد المالي والاقتصادي والدعم السياسي والإعلامي والدعائي. فضلاً عن استقبال اللاجئين الأوكرانيين وفق إجراءات تفضيلية، باعتبارهم من «ذوي العيون الزرقاء».
اللافت راهناً أن مرور الوقت وتراكم الأثمان التي تم بذلها وتلك المطلوب الوفاء بها، من المتغيرات التي فعلت فعلها في هذه الأريحية، بحيث راحت مشاعر وعقول كثير من الأوروبيين تجاه الحدث الأوكراني، وتوابعه كتدفق اللاجئين، تبرد شيئاً فشيئاً، حكومياً بعامة وعلى المستوى الشعبي بخاصة، أسهم في هذا التحول تباين ضغوط الحرب واختلاف الأعباء الناجمة عنها بين دول القارة.
لقد ألقى استمرار الحرب وفشل مداخلات الوساطة والتسوية بل وغيابها في الوقت الحالي هبوطاً إلى توقع انعدامها في أي أفق زمني منظور، على النحو الذي ألمح إليه ستولتنبرج، إلى انبعاث فوارق ملحوظة في حسابات المكاسب والأضرار بين الشركاء الغربيين، بحسب القرب والبعد من الميدان.
القصد، أن الأوضاع الجيوستراتيجية والاجتماعية والاقتصادية للدول الغربية الحليفة، مارست دورها كمحددات مؤثرة في السياسات والمواقف القومية، وذلك بمعزل نسبي واضح عن السياسات والمواقف الجماعية أوالاتحادية أو الفوق قومية، هذا ما تجلى تماماً في المقاربات الأخيرة لعواصم دول الجوار اللصيق بأوكرانيا، كبولندا والمجر وسلوفاكيا ورومانيا، التي أخذت تطالب باستثناءات ملموسة لدعمها مالياً واقتصادياً، بالنظر إلى الأضرار الأكبر الواقعة على شعوبهم، مقارنة بالشركاء الأبعد قارياً.
وعلى سبيل الاستطراد المفيد، ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن الساحة الداخلية الأمريكية، لا تخلو بدورها من مؤشرات لضجر وتحفظ بعض القوى المؤثرة في صناعة القرار، إزاء حجم النفقات المخصصة للقضية الأوكرانية، يحدث هذا بقوة الآن في أوساط نواب متنفذين من الحزب الجمهوري. ترى، هل يعني ذلك وجود إرهاصات للتوجع الغربي في عملية عض الأصابع الجارية على أشدها مع الخصم الروسي؟!. ربما، ولكن لننتظر ونتأمل ونرى.