تحرير العروبة
افتتاحية الأزمنة
الخميس، ١٣ أكتوبر ٢٠٢٢
الدلائل تشير إلى أن الإنسان يحيا في حاضره فقط، ومعه ترافقه دائماً ذكريات الماضي وآمال المستقبل، التي تشكل مؤثرات لا غنى عنها، من أجل تطوير واقعه وبنيان وجوده، وذاكرة الفرد تتكون من تاريخه الذي يجتمع فيه المكان والزمان، أي الشخصي والاجتماعي الممجد، إضافة إلى المدان والوضيع، وإذا أردنا تقديمه للحاضر يجب تخليصه من الشوائب وصقله وتوجيهه وإظهاره منسجماً راقياً جذاباً، ومع هذا لا ينبغي قلب الحقائق أو تبديل الوقائع، بل كما ذكرت تخليصه مما علق به، هذه التي عملت على خلط هذا الماضي بالمستقبل ضمن واقعه المعيش، فأن يعرف المرء الغث من السمين، يحدث له التعلق، ويبعد النفور، وهذا يقودنا إلى فهم الأخطاء التي وقعت في الماضي، وفردها على بسط البحث قبل ذكر الأمجاد والتفاخر بها.
طبيعي أن نجد في حركة التاريخ الماضوي ضمن المجتمعات المحلية والإقليمية والعالمية اجتهادات أدت إلى ظهور طوائف ومذاهب، وأكثر من ذلك أديان صغيرة أو كبيرة، وأن يكون لكل منها خصائص ذات نظم وأفكار تختلف عن الدين العام للمجتمع، إلا أن هذه جميعها لا تشكل شخصية الأمة أو الدولة أو المجتمع، والسبب دائماً أن ليس للدين سلطة قضائية أو سياسية، لأن السياسة تخصُّ الجميع، والقضاء والقانون يقعان على المجتمع، وهذه الأقليات لا تتميز عن الأكثرية بغير الدين أو المذهب، وكفاح أي شعب أو مجتمع، إنما يسعى لتوحيد كلمته وتكوين وحدته القومية من خلال ما يمتلكه من إرث روحي وثقافي ومعارف وعلوم، ناهيكم عن مخزونه الآثاري الدال على ما مرّ به، والذي يحكي عن حضوره التاريخي في الماضي، نحن عرب أولاً، وسوريون ثانياً، ومجموع أديان ثالثاً، نحن هنا في قلب عالمنا العربي والشرق الأوسطي.
المسيحية نبعنا الذي انساب إلى العالم أجمع من قلبنا، والإسلام انتشر غرباً وشرقاً من هنا، وقبلهما تراكمت الحضارات التي تدفعنا لنعتز بعروبتنا التي تحدث عنها المفكر العربي السوري «ساطع الحصري» في كتابه العروبة أولاً، ومهدت في مقدمة حديثي الخفي على أنها الحاضنة، وبوتقة تصهر فيها مكونات الأمة المنتشرة في أصقاع الجغرافية العربية، تحفظها كجسم واحد، تضمها مانعة عنها الفرقة والجفاء، رافضة بذور الفتن والانشقاق، وهذا يجسد لنا تعريف الأمة بأنها جماعة ثابتة على جغرافية محددة، تألفت تاريخياً، ولم تكن يوماً عرضية بحكم اشتراكها باللغة والأرض والتكوين النفسي والثقافة المشتركة مع حياة اقتصادية متكاملة، وأن فقدان أي بند من بنودها يفقدها كيانها القومي، ويعيدها شعوباً، وهذا يحدث إن لم تخضع لقوانين التطور والتحديث، لأن الفكر الإنساني فكر إبداعي خلاق مستمرُّ التطلع نحو الأفضل، وإيماننا بهذا وأخذنا بنواصيه يؤدي إلى تحرير العروبة التي غدت بحاجة ماسة إلى التطوير أمام مستجدات العصر وتداعياته.
تحرير العروبة يبدأ ضمن أقطار الدول العربية، فإذا نجحت كانت أولاً حاضنة حقيقية لأبناء الدولة بعد أن تصل إلى تحرير أفرادها من التخلف وإيقاف حركة تقهقرها إلى الماضوية وتخلصها من العرقية والقبلية والعصبية.
إن العروبة تؤمن بحرية الفرد فيما يعتنق، وتجمعه من دون تفريق مع من يساكن أرضها، وتحضن الجميع تحت شعارها، وللأسف أن كثيراً من أعداء الأمة، مثل الصهيونية التي تدعي أن اليهود أمة وقومية، ينكرون على العرب عروبتهم، وأنهم أمة، وغدونا نستمع إلى أصوات من داخل الأمة، تنادي بذلك، أو تؤيد الفكر الصهيوني بهذا الخصوص، أو تتمسك بخصوصية ماضيها.
تحرير العروبة يعني تحرير الإنسان من عقد العنصرة، ويؤدي إلى الإيمان ببناء الأمة الحديثة التي يجب أن تشغل أذهان الوطنيين من أبنائها بنهضة الأمة والحفاظ عليها، وإيمانهم بحقوق إنسانها الأساسية ومساواة حقوق الرجال والنساء وحرية المعتقد ضمن الحاضنة وصيانة العدالة والدفع بعجلات التطور قدماً، مع رعاية الرقي الاجتماعي وتعزيز التسامح كلغة اجتماعية، تحمي الأجيال القادمة إلى الحياة من كوارث الانفلات، الذي يكون سببه الأول التقليد لا الإبداع.
لم يعد بالإمكان تخدير الشعوب العربية التي أفاقت من سُباتها أمام قياداتها بالقيم الأخلاقية أو الدينية أو الوطنية المجردة من العدالة أو المساواة، وأدركت شعوبنا العربية الأفكار، لا ينبغي أن تحول بين الإنسان وتطلعه إلى الحياة، ومن الضروري ألا تتنافى معها في أي شيء، لأن الحياة ملك للجميع، وإن أول تحرير للعروبة يكون بفهم معضلات أبنائها والمؤمنين بها، كي تكون على المسار الصحيح، وإذا كانت على ذلك تبعها المترددون، وآمن بها الجميع.
العروبة دافع للعمل والإنتاج ورافعة للحياة، لأنها تعتبر الإنسان المتخصّص بها وحدة كيانية، تحمي نشأته، وتعزز حقوقه وواجباته، وتحترم المساواة الإنسانية، فهي نتيجة طبيعية لتحقيق الاستقرار والاندماج ضمن الشروط والمبادئ القائمة، والإيمان بها يجرّد الإنسان من عوائقه ونزعاته، فهل نعمل لها ومن أجلها؟
د. نبيل طعمة