تخييم أميركي - إيراني في الدوحة: حظوظ إحياء «النووي» ترتفع مجدّداً
أخبار عربية ودولية
الأربعاء، ٢٩ يونيو ٢٠٢٢
على رغم كلّ الحديث عن أن «نافذة الفُرص» للتوصّل إلى اتفاق يُعيد الولايات المتحدة إلى الصفقة النووية مع إيران، صارت صغيرة جداً، إلّا أن الزخم الذي رافق استئناف المفاوضات غير المباشرة في الدوحة بين رئيس الوفد الإيراني المُفاوِض علي باقري، ومسؤول الملفّ النووي في إدارة جو بايدن روبرت مالي، يحمل دلالات على أن إمكانية إحياء الصفقة لا تزال قائمة. وتُعزّز تلك الإمكانيةَ جملة أسباب تبدأ بالدور الذي لا غنى عنه لإيران في أيّ «استقرار» للشرق الأوسط، ولا تنتهي بفتح أسواق النفط والغاز على احتمال الإشباع الذي ما زال يبدو هدفاً بعيداً من دون مثل هذا الاتفاق، وبين الأمرَين أهمّية مكان التفاوض في الدوحة، والذي أثبتت التجارب السابقة فيه أن المستحيل يغدو ممكناً عَبره
لا يبدو أن التحالف الجديد الذي تسعى واشنطن إلى تشكيله في الشرق الأوسط، كجزء من العودة إلى التحالفات الإقليمية القديمة بهدف تطويق روسيا، سيكون بديلاً للتحوّل في النظرة إلى السياسة العالمية، والذي كانت أميركا قد أعطت مؤشّرات قوية إليه، عند توصّلها إلى اتفاق نووي مع إيران عام 2015. ولذلك، مرّة أخرى، لا يَظهر أن ثمّة مناصاً من العودة إلى التفاوض مع إيران. فالتحالف المذكور يمكن أن يفتح باباً لتعزيز تحالُف معاكس بين روسيا وإيران، قد يكون من القوّة بحيث يجعل الأوّل غير ذي فائدة قبل أن يُعلَن عنه رسمياً، ويُجبر الولايات المتحدة على العودة إلى المزيد من التورّط المباشر في الشرق الأوسط. زد على ما تَقدّم، أن الطلب المرتفع على النفط والغاز، معطوفاً على حرب أوكرانيا، والذي أوصل البشرية إلى أزمة غذاء، لن تحلّه زيادة الإنتاج السعودي والإماراتي، بل يحتاج الحلّ إلى إدخال مزيد من النفط الذي تحتاجه الأسواق العالمية، التي تهيمن عليها أميركا حالياً، ولا سيما «النفط الممنوع» الذي لا تستفيد منه راهناً سوى الصين التي تشتريه بحسم كبير، كالنفط الإيراني والفنزويلي.
هذه الفكرة ليست جديدة؛ إذ ردّدتها أميركا بصوت عالٍ عند بداية حرب أوكرانيا، فيما تُعيد فرنسا طرحها حالياً. لكن الوصول إلى تلك المرحلة يحتاج إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وفي ذهن الغرب أن هكذا عودة ستؤدي، فضلاً عن إشباع السوق نفطاً وغازاً، إلى تحييد طهران، ولو نسبياً، عن الاصطفاف بالكامل إلى جانب روسيا في تحالفٍ ساحته الشرق الأوسط، خاصة وأن مثل هذا الانخراط الكامل لطهران دونه عقبات، مِن مِثل سماح موسكو للطيران الإسرائيلي بحرّية العمل في سوريا ضدّ إيران وحلفائها. على أن وصْفة من النوع المُشار إليه، يحتاج التفاوض عليها إلى مكان كقطر، أي أنه ليس مفتوحاً على التأثيرات التي أوصلت المفاوضات النووية في فيينا قبل أشهر إلى حافّة الموت، من خلال ابتزاز إسرائيل للأوروبيين و«الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، فضلاً عن الأميركيين. وطهران هي التي اختارت الدوحة مكاناً للمفاوضات غير المباشرة مع الأميركيين، باعتبار قطر «دولة صديقة» تمايزت بعلاقة جيّدة مع إيران أوجدت مناخاً من الثقة بين الجانبين، على رغم تحالفات الأولى الأميركية والتركية وعلاقاتها غير الرسمية بإسرائيل.
وقطر هي واحدة من دول الخليج الأقلّ تأثّراً بالعامل الإسرائيلي، والتي لا تحتاج إلى تحالف أمني مع إسرائيل يضمن أمن النظام، باعتبار أن قاعدة العُديد الأميركية، وهي الأكبر في الشرق الأوسط، كفيلة بتوفير تلك الخدمة. وهذه الضمانة خضعت لتجربة فعلية حينما أراد وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الدخول عسكرياً للإطاحة بالحُكم في قطر، إلّا أنه مُنع من ذلك، على رغم مباركة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، لخطّته، حينما تدخّلت المؤسّسات الأمنية الأميركية لتعطيلها. ولعب يومها أمير الكويت الراحل، صباح الأحمد صباح، دوراً أيضاً، خاصة لدى ترامب، إذ قال وهو يقف بجانب الأخير إنه: «أمكننا وقف عمل عسكري» في الخليج. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن قطر هي المكان الذي استضاف محادثات لصالح الأميركيين بدت في وقت من الأوقات مستحيلة، كمِثل التي دارت مع حركة «طالبان»، وأفضت إلى تحقيق هدف سعى إليه أكثر من رئيس أميركي ولم يوفَّق فيه، وهو الانسحاب من أفعانستان. والتحادُث مع إيران اليوم، يشبه النمط الذي كانت أميركا تستخدمه حين تكون لها مصلحة حقيقية في التوصّل إلى اتفاق ما، يَفترض «التخييم» في مكان التفاوض حتى إنجاز الاتفاق. والدوحة أكثر ملاءمة لمثل هذه المفاوضات، من سلطنة عُمان التي خاضت وساطة طويلة النفَس وبعيدة عن الأضواء بين الأميركيين والإيرانيين، ساهمت في التوصّل إلى اتفاق 2015.
ويبدو أن إسرائيل التي يزعجها كثيراً استئناف المفاوضات، بحيث عمدت إلى تقريع مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بسبب زيارته الأخيرة إلى طهران، صارت، أقلّه لدى تيّار وازن من مسؤوليها، تُسلّم بحقيقة أن لا بديل لواشنطن من التفاوض مع طهران. ولذا، فهي خفّضت سقف موقفها، الأمر الذي عبّر عنه وزير الدفاع، بيني غانتس، الذي أيّد التدخّل في صياغة أيّ اتفاق أميركي مع إيران، بدلاً من منع التوصُّل إليه. وفي المقابل، انصبّ الغضب السعودي على الدوحة التي بدأ هجوم الذُباب الإلكتروني عليها فور الإعلان عن استئناف المفاوضات فيها، بعدما ظنّت الرياض، نتيجة تنازلات بايدن أمام ابن سلمان، أنها صارت تستطيع وضع «فيتو» على اتفاق أميركي - إيراني. قد تُساير أميركا، السعودية والإمارات ودولاً خليجية أخرى، بتحالف آخر تكون إسرائيل زعيمته ويشدّ عصبَه العداء لإيران، إلّا أن واشنطن تدرك أن طهران تظلّ عامل استقرار رئيساً في الشرق الأوسط، وأن أيّ ترتيبات تقوم على العداء لها، تجعل من المنطقة برميل بارود، وتقضي على فُرص خفض أسعار النفط. ولذلك، فإن هذا التحالف الإسرائيلي - الخليجي، هو تحالف جزئي، غرضه الحقيقي توكيل إسرائيل بحماية الأنظمة الخليجية من شعوبها بالدرجة الأولى، مقابل تطبيع العلاقات وإدخال الإسرائيليين إلى الخليج، لأن واشنطن، ضمن سياستها الجديدة، لم تَعُد تريد القيام بهذا الدور بنفسها.
وإيران، فضلاً عن ضخامة الحالة التي تمثّلها في الشرق الأوسط، بما لها من تحالفات ممتدّة ومتجذّرة وتأثير في العديد من دول المنطقة، تملك واحداً من أكبر احتياطات الغاز في العالم، وتتشارك مع قطر حقلاً ضخماً هو حقل فارس الذي يتعامل البلدان بشأنه في تفاهم تامّ، ما يجعل من الاتفاق المحتمل مع إيران، فرصة لتخفيف أزمة الغاز في العالم، ولا سيما في أوروبا، وهو ما يفسّر الحماسة الأوروبية البالغة لاستئناف المفاوضات. أمّا عن مدى جدّية الأميركيين في التفاوض، فإن أحد المؤشّرات البارزة على احتمال نجاح محادثات الدوحة، هو إسناد رئاسة الوفد الأميركي إلى روبرت مالي، المُكلَّف بملفّ إيران في إدارة بايدن، والمؤيِّد للعودة إلى الاتفاق النووي، وأحد المكروهين في إسرائيل.