تفكير الفرد
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٠ يونيو ٢٠٢٣
الإنسان موجود بذاته، وليس من السهل الوصول إليها واكتشافها، ومع هذه الحالة تكون جهود المسير إلى الأمام والأعلى مؤلمة ومضنية، وما أروع روح الكفاح عند الأجيال بغاية تحقيق الأهداف، ومن أجل التحرر من تأثيرات المراحل وصولاً إلى رسم الشخصية وتحديد هوية ما نحن نريد أن تكون عليه.
ومثل الإنسان شاباً أو كهلاً وحتى في مراحله المتقدمة من العمر كمثل النجوم التي تنتظر أن تغدو شموساً، بدورها تنشد أن تجري من حولها النجوم، فهل ننفي ما كنا عليه ونتحول إلى شيء جديد، والمنطق يتحدث عن أن لا شيء يخرج من لا شيء، وكل شيء يخرج من شيء، الخالق لم يمدّ يده إلى السماء، بل مدّها إلى الأرض، حيث الماء والتراب حولها إلى طين صنع منها "آدم" الذي عنى بأنه الأديم، والأديم مواد أولية تحتاجها لصناعة أي شيء، ومن هذا الأديم صنع وسوّى كل المخلوقات الحية، وأهمها كان مخلوقه الفريد الذي أطلق عليه "الإنسان"، وأهم ما في الإنسان أنه مفعم بالعجائب، ويظل يبحث طوال وجوده الضروري، كما هو حال نهايته عن ذاته وشخصيته، إلى أن يجدها، ولا يجدها إلا إذا مدّ يديه إلى الأدنى، ويأخذ بها إلى حيث يجد فيها ما يفيده ويرقيه، فإذا رفع يديه إلى الأعلى برأيكم على ماذا سيحصل؟ "تبقى ضمن الحالة الروحية، وبشكل أدق هي مناجاة من الذات إلى الذات" وسواد الإنسان لا يجدها، ومن يجدها تمنحه الهوية والحضور إيجاباً أو سلباً، هذه الهوية يملكها بعد ذلك إلى نهاية رحلته العمرية طابعة كل ما ينتجه بطابعها الذي لا يزول، وبه يعرف، وأنا هنا أقول: "لماذا صُنع هذا الإنسان" ولا أدخل في "كيفية صنعه" ولا في ماهية صانعه، لأننا سندخل في الجدل، ونتوه معه بين المادي واللا مادي لكني أؤكد انه صنع من أجل ان ينجز شيء ما.
وأيضاً اسأل هنا هل تصنع الألقاب للإنسان هوية جديدة تخفي من خلالها ما كان عليه، أو تفصله عنها، أو توحده بها، فيغدو بذلك إنساناً موجوداً كحقيقة واضحة بذاته، لا بالصورة التي غدا عليها أو أن هذه الصورة صنعت له ذاتاً جديدة، إذ ليس معنى الخلق أن تخرج من العدم وجوداً، إنما الخلق يحتاج إلى شيء كي يحدث، وكما احتاجت الأحياء روح الخالق يحتاج كل منتج أو مخلوق أو مصنوع أنجزه إنسان إلى روح كي يتحرك أو يتفعّل أو يستفاد منه، ونسأل مع كل مُنتج لماذا صنع هذا؟ أمن أجل أن تستمر الحياة، وأن نؤمن بها أكثر؟ أم مقابل الشك الذي اخترعه عقلنا وتفكيرنا ومنطقنا، والذي من دونه لما حدث أي تقدم أو تطور، وأيضاً اخترع الإنسان الخوف من ذاته ومن غده، وعاش أقسى خيالاته، لذلك أقول: إن ما يفتك بنا من صنع عقولنا ومن إنجاز أيدينا، والشر الذي نحياه ما هو إلا من أفكارنا.
وكتبت قديماً أيها الناس لا جحيم لكم إلا إذا أوجدتموه بأنفسكم، وهنا أؤكد أن إدراك ما هو مفيد يؤدي بالإنسان لخلق كل جديد شريطة ألا يصل الفرد إلى الجشع، وصحيح أننا نفتخر بأننا أخضعنا المادة إلى مشيئتنا، إلا أننا نسينا أن المادة عادت لتخضعنا إليها، وحولتنا إلى عبيد لها، واستخدمنا أغطية الثقافة والإحساس والفكر والإبداع والإنتاج، وأطلقنا على كل ذلك حضارة، أسألكم هل نستطيع العيش من دونها؟
هل يمكن أن يسوق الفرد نفسه إلى ما لا يريد؟ هل يمكن أن يُقبل مختاراً على شراب مرير يتجرّعه ولا يستسيغه، وقوة الفكر والرأي والاختيار الذي لا يبلغ مداه حتى يحمل نصيبه من الدفاع عن العقل ذاته.
قد نتعجب من الذات عندما ندرك وعيها، كيف تتجاوز حزّ الحديد، وتمرّ من لفح النار، وتخرج خلاقة من تحت ضغط الماء، وتجدها مع تراكم الوعي، لا تستخذي للعذاب ولا تحفل به، ولا تبالي له، بل تقبل عليه مرة بعد مرة راضية به مطمئنة له والسبب الدائم هو إيمانها بالحياة وفهمها لمقتضياتها الذات الواعية، تدير الفكر على عكس ما هو سائد، وهي لا تستغيث أو تصرخ جزافاً، ولا تستسلم للأقدار، لإيمانها بالضرورات والحتمية والبدّ الذي لا بدّ منه، وهي دائمة السعي إلى الأعماق التي فيها كل جديد.
من كل ما قدمت أستطيع القول: إن تفكير الفرد يجب أن يبدأ من الأدنى، فالمكونات وكما ذكرت موجودة على الأرض، وفي محيط مستوى بصر الإنسان، وهذا ما يفسر نظرية النشوء والارتقاء "الدارونية"، والتي دحضت فيها فكرة "الوصول القردية"، لذلك أجدني أدعو إلى العمل الذي يبدأ ببناء الأساس، ومن ثم يصعد فيه أمل أن أكون قد وصلت معكم إلى حقيقة ما يجب أن يكون عليه تفكير الفرد.
د. نبيل طعمة