تفكيك الإنسان
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ٢٧ يوليو ٢٠٢٢
أؤكد أننا ومهما بلغنا من القدرة على البحث في شأنه، لا نكاد نفهمه الفهم الدقيق النافذ، إلا إذا فهمنا أطوار حياته وربط تجاربه التي يطلعنا عليها وعلى ما خفي منها، وإذا أراد ملاحظتنا لاختلاجاته النفسية، لندرك ما وراء الحسّ في حياته التي عايش من خلالها الصدام والصراع، والحب والكراهية، والفشل والنجاح، ما يمكننا من اكتشاف بعض من البواعث والولائد في أطباق نفسه القصيّة عندما نريد دراسة مسيرته، كي نستنبط من خلالها الفهم الحي للعنصر الوجداني الدفين المستتر في قرارة نفسه وإخراجه إلى عالم النور، أي إن لم يفتح صندوقه المرمز بالأسود فلامتلائه بالأسرار التي لن نقدر على فهمه، إن لم يطلقها منه.
فالإنسان مزيج من نوازع متباينة تتجاذبه نزعة مادية قوية، تؤمن بالطبيعة وموجوداتها ونزعة الإحساس الديني العميق المرتبط بالقداسة، الذي به يربط الظواهر مع الوجود في وحدة كيانية واحدة، تؤكد اتحاد الجسد بالروح، فنراه تارة متسعراً تعتصره الثورة مع الألم، مظهراً تشاؤماً وحساسية عميقة في التمرد على ذاته، إضافة إلى خضوعه للطاعة المقلقة القادمة من ضغط ظروف الراحة أو التعب التي تشرئب إلى تحرير النفس وعتقها من ربقة المادة واللا مادة، ضمن محاولة البحث عن شيء جديد كعالم المثل الرفيعة، حيث الحقائق متلاحمة، حتى وإن اعتراها بعض الغموض، وغلب عليها الإبهام بدل الوضوح، المهم أنها مبهرة وجديدة، أي أن يرى زمنه متألقاً، ويعيش في عهد التجديد ونهوضه وبعثه، ومن خلاله يشهد يقظة الروح، كي تلمع أحلامه، وتنبئ عن ولادة أحلام تخص جيل عصره، الذي روعته الحروب، وأبهظته الآلام والموت والمخاوف.
كأني بهذا الإنسان يستثيره حب استكشاف الإنسان، ليأخذ شكل مطالبته لنفسه بشوق واهتمام، وحتى يجيبه إلى طلبه، ويبين الغاية من اختياره موضوعاً بعدما يقرّ له بأنه إنسان، وبعد اعترافه بأنه عبقري متصوِّن ذو خيال رقيق متسربل بالرشاقة والفخامة، والتَوتْ عنه عواتير العقم والخشونة، على الرغم من أن بعضه يتمترس خلفها، لتنطبق عليه جميع الصفات الوجودية والسماوية، وفي الوقت ذاته، نراه يمثل زمنه تمام التمثيل، إن كان في رخاء، أم كان في شظف العيش، أو ما بينهما، فالآلهة أنجزت المثل العليا في الإنسان الذي خلقته بفكرها وصاغته بأيديها المستعارة، ليكوّن ملاحمها في الحياة الدائبة النشيطة والمفعمة بالغرائز المتضاربة التي تتحرك بين الخير والشر، بين الحرب والسلام، بين البناء والهدم، ما يؤدي إلى ملئه بالإثارة، فتارة تراه ساكناً هادئاً، وتارة غريباً حتى عن ذاته، ومرة ينحو إلى الحماسة، وأخرى إلى التجبّن والاختفاء، ليكون الإنسان على درجات ومراتب، وعلى كل درجة تجد منه رسماً متحركاً، بدءاً من القاع وحتى القمة، مثبتاً أنه خلق مستمرٌ وامتداد لا متناهٍ من عالم الحرية إلى عالم الحماسة التي تخضعه لقانون الموت، الذي يجسد الضرورة التي من دونها تكون مأساته أكبر وأعمق، فأمس الإنسان لا يشبه غده، ولا يلتقي الاثنان إلا في حاضره، فإما أن يأخذ به نحو الهاوية، وإما إلى الأمام الذي ومهما طال تتجسد فيه الضرورة التي لا تعلن عن حضورها، مشكلة للإنسان السرّ المحجب «سر الوجود».
أجل يستطيع الإنسان أن يفسر نظراته الحالمة إن أراد، وأن يجعل صمته يتكلم بما يختلج في نفسه تجاهه، وعن الآخر ومحيطه، وبإمكانه أن يبرر أو يدين أعماله وأعمال الآخر، لكنه وأجزم لا يقدر أن يفضح سرائر نفسه، فهو يخشى ويهاب معرفة حقيقته، فكيف بمعرفة الآخر؟
إنه أي الإنسان، خلق مستمر وامتداد لا متناهٍ من عوالم الحرية إلى عوالم البدّ الذي لا بدّ منه، ضمن كون سرمد من أجله، وبه تتدافع الأفكار كالأمواج الخاطفة، يلتقط منها ما يفيده أو يضره، ليعود إلى جوهره، يبحث عن تبرير لأعماله، فإن لم يقنعه وقف أمام الله طالباً منه الصفح والغفران، لكونه أخطأ بحق أخيه الإنسان، الذي اشترى منه الحياة الهادئة، وباعه تعبه.
هل يستطيع الإنسان اعتزال الحياة والعيش حراً طليقاً من قيود العمل وترف المال، وأن يستمع إلى نفسه التي تتوق للتحدث معه في سكون الليل أو الطبيعة، ليرى ويتفكر بما قام به من ظلم للآخر، وما تعرض بذاته للظلم؟
أكتفي بهذا، وأختم بأنّ من يقتلُ إنساناً إنسان، ومن يسرق ويعتدي ويشي ويخون إنسان، ومن يعمّر ويبني ويصلح ويبدع وينتج إنسان، فهل نقدر أن ندرك أن هذا البشري السائد الآن على وجه البسيطة الإنسان؟
د. نبيل طعمة