تيه الرأي

تيه الرأي

افتتاحية الأزمنة

الاثنين، ٢٦ أبريل ٢٠١٠

يختلف عن فعل الخطأ والخطيئة، ويتشابه مع الانحراف عن السبل الصحيحة، ويلتقي مع التمرّد؛ الذي يفقد الذاكرة ،ويهيم على وجهه باحثاً عن الأمان دون امتلاك المقدرة على التطلع العقلي إلى الوراء، نسير إليه، فحين تتطور الأنا ينشأ الانفعال، وحدوث حالات الهيجان، وفقدان التوازن العلمي والمعرفي، أو عندما يتطور النظر على حساب البصيرة، وإذا أصاب صاحبَ الحكمة أصاب منه مقتلاً، حسب ما سكن عقولنا هو أن " غلطة الشاطر بألف "، لذلك تجد الحكيم دقيقاً ومتبصراً وهادئاً في أجوبته وتصرفاته، وإني لا أستثني أتباع موسى النبي وتيههم في سيناء لأربعين عاماً، هذا الرقم المحزن الذي يشكل انعطافاً في حياة الإنسان، حيث تحدث له الرؤية التَبَصُّرية ليمتلك بعدها العقل، والحكمة، والبلاغة، والنبوة، فارضة عليه عدم التيه والتوهان، مطالبة إياه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن تلك المطالبة الدائمة التي نعزوها إلى الإله الكلي الأبدي السرمدي: بأن لا يأخذ برأينا إلى التيه، بحسب المثل القائل ( الله لا يتوه لنا رأي )، لماذا ننسب الخطايا إلى ذاك السامي، المحيط للوجود الحي، المراقب، ما علاقته بخطايانا؟ وهو أسمى وأرقى وأرفع منها ، فهو إله الحب، أعطانا العقل، وترك لنا حرية التصرّف، أي الاختيار بين مفارق الطرق .
نحن جنس الإنسان: الذكر والأنثى نطلب منه دائماً وأبداً بأن لا يأخذ رأينا إلى التيه، وإذا حصل وتهنا عنه أي: عن جادة الصواب كي نتكئ على الفاعل لحظة فشل الفعل، فمن أجل أن نعود إليه، ولكن دون الأخطاء التي ارتكبناها بفعل قرار الشهوة البشرية؛ لا قرار المعرفة العلمية والفهمية بنظم الاتجاهات وآليات اختيارها، ومن مبدأ الاطلاع على معنى التيه وعلاقته بالرأي؛ نجد أنهما جملة مفيدة، تحمل فعلاً ماضياً مبنياً للمجهول ونائب فاعل، من هذا المنطلق نبدي الرأي في التيه الذي يخص بسطاء الفكر الاتكاليين والمنتظرين، فلا يعقل العقل إلا بالرؤية؛ التي تحتاج شجاعة الشجعان، وعليه يكون الحكم بعد امتلاك مبدأ " اعقل وتوكل"، وحينما قال لها: " اذهبي فإن الله معك، قالت له إن كنت معي فالله معي، وبدون ذلك أتوه وأشرد ولا أدري من سيأخذ بيدي". إنه التيه القادم من زلل في كلمات اللسان التي تُظْهِرُ تَكَبَّرَ وَصَلَفَ الإنسان بما يأخذ به إلى الإنفراد في الرأي، ليبتعد عنه الجميع، فيبقى وحيداً تنتابه الحيرة والضياع في مكانه، فلا يجد لذاته مخرجاً يحصره في داخله، مبعداً إياه عن رؤية الجمال، أي: يفقد البصر والتطلع والانفتاح، بينما الرأي انفراج يسمح لك أن تبديه فتخرج من عمقك القابع فيه، يحررك ويمنح بصرك قوة تبادله مع الآخر والمحيط، ليحدث لك السرور ومساحة لمناقشة رأيك، وكم سنسعد لحظة الإشارة إلى أنه خلا من التوهان، وكان رأياً مستقيماً وسديداً .
هل تاه رأي أحدنا يوماً ، ودخل في تيه الحاضر والمستقبل؟ هل فقدت أفكاراً من ذاكرتك الإنسانية وضِعْت عن الحقيقة؟ وعميت عيناك بكونها حصلت في الماضي، وهل التيه يؤدي إلى الندم، والاعتراف، والبكاء على الأطلال؟ هل وُضعت في خانة التيه عمداً من أجل أن تتجول في داخلك؟ بقصد اكتشاف عنق الزجاجة؛ التي ستأخذ بيدك إلى عالم الرأي السديد، أي: إلى الحقيقة، ماذا تعني عبارة  "الحب أعمى"؟ والزواج يعيد إليه البصر، والتوهان  في الحب شيء جميل وعظيم، لذلك أدعوك للتوهان في الحبِّ والزواج، وليكن ما يكون من أجل الوصول إلى التكوين، والتيه مع الإبداع والتوحُّد فيه ينجب استمرار الحياة وروعة حضورها، والتوهان في الإيمان والتداخل مع الإله الأعظم ناظم الكون ومهندسه؛ يمنحك الوصول لمعنى الوجود وأسبابه، لذلك نطلب منه دائماً وأبداً أن لا يتوِّه لنا رأياً، وإني لأعتقد أن ليس له علاقة - كما بدأت- بتوهان رأينا، فنحن المسؤولون عن ما يحدث، وفي لحظات الضعف ( أي حينما نتوه ) نلجأ إليه .
لا يجوز التوهان في أيِّ من السياسة، أو الاقتصاد، أو الاجتماع أو العلاقات الأسرية الجميلة؛ لأنها مسؤوليات كبرى قادمة أساساً من التيه في الحب، فإذا تهت وأحببت فاعلم أن لك الإبداع، والإبداع جنون، فيه فنٌ يؤسس لجمال الحياة، يأخذ بك لأن تكون عبرة لمن يعتبر، فلنتهْ في حبِّ الأداء والانتماء والولاء للإبداع؛ الذي حضرنا بسببه، وهنا أقصد جغرافيتنا التي أوجدت لنا الاختصاص بها، فإذا تهنا عليها، وأنجبنا لها فهذا هو التيه العظيم .
في زمن تسارعت فيه الحياة، وازدادت فيه الكثافة البشرية بشكل هائل، وغدا اكتشاف الخطيئة من الأمور السهلة؛ بات التوهان ممنوعاً، فأيُّ خروج عن السكّة يأخذ بالمرء إلى التيه، فشدة التزاحم تمنعه من العودة، من ذلك كله أعود إلى مَثَلنا المحبَّب ( الله لا يتوِّه لأي إنسان عاقل رأي ) .
د.نبيل طعمة