ثقتي بوطني
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٢ ديسمبر ٢٠٢٣
تتراكم أخطاء المعتقدات الروحية والسياسية، وتتفاوت الانتماءات ودرجات الإيمان، وتتداول المجتمعات جدليات بلغت حدود الصراعات الفكرية ووصلت درجات الاقتتال، وأوقعت الكل بين مؤيد ومعارض، وظهرت معها الاصطفافات غير العاقلة، وأخذت الدعوات للانفلات تعلو وتتسارع باتجاهات قبول الواقع، وحتى اعتناق الأفكار المتدحرجة على سطح العالم؛ والتي تبدأ من أبناء الوطن الواحد وتنتهي بسياسات مبرمجة تهدف إلى زعزعة المجتمعات وفرط عقد وجودها، لم تصل مجتمعاتنا بعد لمفاهيم وأدبيات الحوار العاقل، بل اتجهت للاقتتال لتحصد من خلاله مكاسب تقسيمية أو انفصالية، مؤكد أني على خلاف وتضاد حتى مع كل من يقول أو قال أو كتب: (خيانة الوطن أو إفساده تفرضها الضرورة) حتى وإن كانت نواياه فيما يهدف إليه إصلاحية أو تنبيهيه، فلمجرد وجود كلمة خيانة أو فساد يعني أننا نبني فكر اللا انتماء، وأنا لا أتفق بالمطلق أيضاً مع فلسفة الصهيونية العربية، إسلامية كانت أم مسيحية، لأنها ستؤدي في الناتج النهائي إلى تذويب هوية الشخصية الوطنية ومن ثم محو الشخصية العربية، وهذا ليس فقط لأني أعارض فكرة الصهيونية وفلسفتها التاريخية والحداثوية، بل لأني أدركت الأهداف الكامنة في عمقها وغايات سيطرتها على الأمم والشعوب، وقيامها بتعزيز العنصرية والشوفينية العرقية من أجل إنجاح الفكرة اليهودية التاريخية والتلاعب من خلالها بإيمان الشعوب وتدمير ثقافاتها.
أثق بوطني وبمن يبني به وبمن يحميه ويديره لأنه يمثلني وأمثله، صبغني بصبغته وطبعني بطباعه، وغدا هويتي وجواز سفري أينما ذهبت وفي أي بلد حللت، أحمل منه ثقافتي ومبادئي وقيمي الإنسانية والأخلاقية، فكيف لا أنتمي إليه وكيف لي أن أتطبع بطبائع غيره، منطقي أن أحترم عادات الآخر وتقاليده ومعتقداته وأن أتفاعل معه بحكم أني أحيا ضمن حريته التي تلزمني بالخضوع لقوانينه دون أن أتخلى عن قيمي ومبادئي الحقة والسليمة، وإذا ما فعلت ذلك فسأتحول إلى تابع، ومهما فعلت، ايجاباً أم سلباً، سيشار إليّ، في أي لحظة، أني ابن وطني الأصلي، وهنا لا بد لي أن أشير إلى أن بناء روح الإيمان بالوطن ومظهره يعتبر من أولى أولويات بناء الإنسان، لذلك أجد أن بناء عقيدة الوطن في الحكم ضرورة حتمية وبشكل خلاق في السياسات الخاصة للدولة التي تقوم على التوازن بين أطياف المجتمع وأفراده وهذا ما يقوي الاجتماع عليه ويدفع بالأبناء للتطور والدفاع عنه دون تردد أو توجيه الاتهام لوجوده أو دوره.
وطني وُلد كي يستمر اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وروحياً، بأطيافه ودياناته وآلهته المانحة لقواه الوطنية كي تدافع عنه، وطني يمثل العائلة المؤمنة بروابطها الجينية، حتى وإن اختلفت فإنها ستعود إلى أصالتها وانتمائها، وليست غايتي هنا أن أقدم تاريخه أو ما قدمه إلى البشرية، وأهميته التي وضعته على المسرح الدولي وأثبتت حضوره، رغم ما يجري معه من مظاهر خارجة عن إرادته وحوادث خاصة بأطماع مبرمجة من القوى العظمى التي طوّعت حفنة من أبنائه لخلق الفوضى فيه والوصول لمآرب دونية عملت على تأخيره، ومع ذلك فإن صورته الشاملة تبقى نادرة بين الموجود، هنا أقول إن لم يحمه أبناؤه فلن يحميه الإله، والمعول عليهم، المؤمنون به والحاملون له في عقولهم وقلوبهم، الواثقون في وقوفهم أمام درجات النمو المقلق لليبرالية الحديثة واستباحة العولمة، مما يستدعي إشباع المؤمنين والمترددين به بالقيم الوطنية والإنسانية عبر خلق سياسة تعليمية نوعية تتناغم مع حقائق وسياقات المظاهر الجديدة للعالم، وتنقيح المفاهيم الجديدة القادمة من الغرب، ويكون ذلك بإنشاء ارتباط متماسك للمناهج الوطنية التي تتوافق مع منهجية الوطن من خلال الاهتمام باستخدام التكنولوجيا الحديثة وتعليم الكبار قبل الصغار عليها، لاسيما وأن فرط عقد المجتمعات والدول تم اعتماداً على فكرة تفكيك الأخلاق بضرب بنيتها التعليمية، هذه التي تحتاج إلى عقدين من الزمن؛ أي خلق جيل ينتج قيادات لاحقة قادرة على هدم القيم والمبادئ، إضافة إلى إضعاف المؤسسة الروحية بتقديم إدارات لشؤونها تتلهى بالمظهر وتبث القشور بدلاً من إعداد الضمائر والنفوس، فالعلم والروح توأمان إن وُجها إيجاباً حصل التطور، وإن كان العكس حدث التشرذم والتقهقر والنفور.
أثق بوطني الذي أدعو فيه لإحداث ثورة فكرية روحية وتعليمية علمية، بغية الإسراع في الإمساك الحقيقي بنواصي التطور، فالكل يتطور وبتسارع كبير، لا أريده أن يبقى حبيس اللغة المؤسساتية الروتينية نظراً لوقوعه في وسط تعقيدات عالمية، وإذا كان وطني حاملاً لرسالة الإيمان والحضارة فإنني أتجه بكلماتي هذه لكل من يروم الإيمان به وبحضوره وبمستقبله.
د. نبيل طعمة