جسور الشهامة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٨ فبراير ٢٠٢٣
أستكمل ما بدأته عن أن الإنسانية ثقافة، هذه التي تظهر عند وقوع الخطوب والأمور الجلل، يبنيها الخير صديق أهله بهمم أصحاب الأيادي البيضاء، التي تمدّ من دون طلب، إنما تستدعيها الظروف، تقدم للإنسان من دون تمييز أو تفريق بين عرق أو مذهب أو طائفة أو دين، تتضامن وتتضافر تحت مظلة الغرض الإنساني المحض، ومن دون تفاخر أو منّة، ولا شك أبداً في أنها أسرع السبل الموصلة إلى الحياة الإيجابية، التي يبحث عنها أي إنسان، لأنها تحمل لذاته طعماً من السعادة التي يبحث عنها طوال حياته، ففي عبورها تفكير مهم وعميق بعد تأمل في ما حدث، وأيضاً إقناع واقتناع يتجاوز أي خلاف أو اختلاف أو حتى صراع، لأن معاناة الآخر تتفوق على كل ذلك، إن هذه الجسور تغدو حقيقة قادرة على صناعة السلام، ليس فقط بين أفراد المجتمع الواحد، إنما بين الشعوب والأمم مع الجوار أو غيره.
جسور الشهامة تلغي الطبقات، وتنهي الصراع بين الأجيال، توحّد الكل من أجل الديمومة، لا فخامة ولا تموّض إلا للإنسانية التي تصبح لغة المشهد، وتعكس على الكل مزيجاً من التوجّسات والخوف والأمل بألا يتكرر الحادث.
زلزال.. بركان.. تسونامي.. حروب.. الكل يغدو في مكان واحد، وفي وقت واحد بعد المركز أو قربه، والعنوان الذي نسير تحته يشبه النداء الأخير للجميع، ليمتزج الكل ضمن بوتقة الحقيقة والخيال، حيث لا حقيقة ليواجهها خيال، ولا خيال إلا الواقع المنعكس ضمن التفكير، ومعه يتقدم المشهد إلى الأمام، داعياً الجميع للسير إليه، وتقديم ما في يد العون من دون تطلع إلى الوراء، وبهذا فقط يمكن منع الإنسان من ارتكاب جرائمه بحق أخيه الإنسان، كما يمكن به منع الطبيعة من تسليط غضبها المتنوع الذي لا تحدثه إلا بعد ارتكاب قاطنيها للفظائع التي تنتهك حرماتها.
لقد حرك الزلزال ضمير العالم بعد مشاهدتهم ما حدث في سورية وتركيا، ولم يتأخر أشقاؤنا وأصدقاؤنا وحتى الشعوب التي تعادينا سياساتها لمد يد العون، لأنها اعتبرت من المشهد، وتجاوزت في مجملها التحفظات أو العودة إلى الملفات، فهول المأساة أوجد أعلى درجات الشعور والتضامن الإنساني عبر مدّه للجسور الناقلة لإنسانية الإنسان.
حتى نهاية القرن الماضي وصولاً للعقد الأول من هذا القرن كان العالم قد وصل إلى الثراء الفاحش لبعض الأفراد وحتى لبعض من الدول، ما أدى لا نتشار فساد هائل في المجتمعات وحتى في الدول، وهذا فتح لزلازل السياسة التي بدأت بإنجاز الحروب وتحضير الفتن والمنازعات، حيث لم تخل قارة من الأحداث الجسام وآخرها أوروبا، وما يجري فيها من حرب طاحنة المستثنى الوحيد من كل هذا الخراب الاقتصادي والسياسي هو أمريكا التي لا يمكن لها أن تزدهر من دون القيام بافتعال الفتن والحروب والزلازل، وإذا ساعدت فإن مطالبها تجاه ذلك محرجة ومهينة.
دققوا معي فيما أنجبته زلازل الحروب المفتعلة أمام زلازل سلطة الطبيعة، وهنا يجب أن يتكون لدى الجميع سؤال واحد: ما أسباب حدوث ذلك؟ وهل مد جسور الشهامة المهمة جداً بين أفراد الشعب الواحد تكفي، ومساعدة الدول لبعضها أيضاً ومساعدة الدول لأبنائها؟ وما الدروس والعبر التي يجب الاستفادة منها بعد حدوث ذلك؟ ليتفكر الإنسان بأنه يلج الحياة من دون أن يمتلك شيئاً، من دون لباس، ويغادر تاركاً كل شيء، وبينهما يعمل ويشتغل بطرق سليمة أو خاطئة، ومهما جمع فسيدع مفارقاً كل شيء، ويغادر إلى غير رجعة.
أبنية أطبقت على قاطنيها بعد أن تحولت إلى أنقاض، لتظهر من خلال ثقوب بعيدة استغاثات تغالب الزمن والموت، وكثيراً يغلبها مشردون هائمون بين الركام والحطام، يبحثون عن مأوى وكسرة خبز وشربة ماء، يُرسم على وجناتها دموع أو بقايا دموع، حفرت مجراها على الوجنات المغبرة، ما أصعب تحول القرى والبلدات والمدن العامرة إلى مقابر بلا شواهد تعرّف عن قاطنيها، بقايا سكانها مشردون، ولولا جسور الشهامة من أبناء الدولة والدول التي ذكرتها لكان العالم قد انتهى لديهم.
مازال الخطر قائماً والأوضاع الاقتصادية عصيبة، ومن دون إدراك هذه الحقائق ستبقى الزلازل الاصطناعية والطبيعية قائمة، إلا إذا تم تدارك ذلك، لأن المشهد السياسي العالمي مازال قائماً على سياسات النكوص بالحقائق والاعتماد على تمرير المحن من دون علاجها بالشكل الفعال، والثروات الهائلة تهدر على الحروب والتدمير بدلاً من الصلاح والتعمير والإنصاف.
جسور الشهامة مهمة جداً، والأهم تدعيمها وتعزيز وجودها وتحويلها إلى مبادئ وقيم، وهذا وحده كاف لمنع سلطات الطبيعية الانتقامية والسياسات الانتهازية المسيئة للمجتمعات والشعوب من الحدوث أو الاستمرار، ومادامت أنها فتحت بعد سنين عجاف، ندعو بعضنا للاستثمار فيها، لأنها تعيد للأمل حضوره، وللتسامح خصاله، وللمحبة جوهرها، شكر السوريين لبعضهم على مواقفهم حق وواجب، كما هو شكر السوريين لكل الأشقاء والأصدقاء، وللذين وقفوا معنا ومروا إلينا عبر جسور الشهامة التي فتحت كي لا تغلق.
د. نبيل طعمة