حروب المعرفة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٨ مارس ٢٠٢٣
أنشأت أزمات إنسانية، تركت الإنسان من دون دعم معنوي، وأبقته على حاله، حتى وإن تعلم مما أظهره وكأنه في غابة، وحولته إلى فوضوي لا يميّز بين الأفضل والأسوأ، وغدت لديه الأمور وكأنها سيان، ما يراكم الأزمات التي ترسم كل شيء لديه، واختزلتها في كلمات، نجح في كل شيء، وفشل أمام الفعل الإنساني، لذلك كان الارتقاء بالإنسان ضرورة لإظهار قدراته الكامنة، ما يعود عليه أولاً بالخير، وعلى مجتمعه بالأفضل، وهذا يتعلق في الكيفية التي تنظر بها الإدارة العالمية وإدارته المسؤولة عنه.
كانت حروب جهل، أما اليوم فهي حروب معرفة، انتقل فيها العالم من الشفافية التي تستخدم الجهل أو تستند إليه، إلى السرية التي تتعمق كلما تطورت المعرفة، لذلك كانت المعارف مفاتيح الازدهار الاقتصادي، لأنها تولد الأفكار الخلاقة والجديدة، حيث بها تحدث إفادة المجتمع المفترض أن تكون هكذا.
هل تعلمنا من الماضي؟ لأن الحاضر يدعونا لامتلاك مجرياته، كي يتولّد من خلاله المستقبل، وهنا أريدكم أن تنفقوا قليلاً من الوقت المهدور بالمجان، ولنفكر به، ومعه ندرك أننا قادرون على بنائه بشكل جيد، أو على أقل تقدير تحديثه، لأن إشارات الأمل والتفاؤل منتشرة على دروب المجتهدين، ومؤكد أن الحكمة مسكونة بين تلافيف أفكارنا، وهي تدعونا من أجل إظهارها والأخذ بيدها، لأننا إن فعلنا ذلك أرشدتنا، وإن أهملناها كنا هشّين كما يشار إلينا من الآخرين، بأنه من السهل اختراقنا.
هذه البداية تولد سؤالاً محيراً، هل يمكن أن ننسى الماضي أو نتجاهله؟ أكاد أجزم أن أحداً يستطيع، إلا إذا توافرت العلامات الفارقة التي تتجسد في الرؤية التخصصية للواقع والممكنات التطويرية القادمة من المبادرات المشتركة التي تستند على المعايير المبتكرة لتطوير الكفاءات الإنسانية الجاهزة للانتقال إلى المستقبل، الذي لم يكن في الماضي واضحاً، كما هو الآن، ما يثير حوله الكثير من الشكوك.
حتى اللحظة عالم الشمال وبشكل خاص الغربي منه الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية يمنع عن عالم الجنوب امتلاك المعرفة، ويتم ذلك بإشعال الفتن والحروب والأزمات، إلى أن وصلت إليه "الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا" ووقع في أتونها الذي أوقع العالم بأسره باضطراب أظهر من خلاله أسوأ الأزمات الجيوسياسية والمناخية، أربكت الحالة الاقتصادية التي تسببت في أسوأ أزمة غذائية هددت بموجبها الأمن الغذائي العالمي، الذي كان يملأ هذا الكوكب الحي بفضل خيراته الهائلة، التي تسأل أين ذهب كل ذلك، والتصميم الذي أشاد هذا الكوكب كان على شكل مستودع هائل للاشتغال فيه وتخزين الفائض أيضاً، أين ذهب وما أسبابه التي أعتقد أن من أهمها الخوف الذي وضع الناس كافة ومن دون استثناء على جرف هارٍ أو ما يشبه حواف الهاوية، ليلتقي خوف الجوهر بالخوف الخارجي، الذي أصبح يحيط بكل شيء، لذلك أجد أن العالم يقف أمام منعطف خطير، فالحرائق التي تلتهم كل شيء أمامه والماضي بما فيه خلفه، والسبب حروب المعرفة التي أخذت تخيف حتى المعرفة ذاتها، التي بدلاً من أن تدفع العالم إلى النماء والأمام أنشأت أمامه حواجز الخوف من وتائر التقدم التكنولوجي المتسارع فيما بين القوى العظمى بشكل خاص، والعالم بأسره بشكل عام، هذا الذي فتح بوابات الذعر والهلع، وأوصل البشرية للخوف من بعضها أفراداً ومجتمعات ودولاً.
كتبت ذات مرة عن مفهوم الحرب، قلت فيه إنها تقوم بين أشخاص يعرفون بعضهم جيداً، يخططون لها بامتياز، يدفعون بأناس للتقاتل، لا يعرفون بعضهم أبداً، يموت من جرائها أشخاص لا يعرفون الأسباب الدافعة لذلك.
وتحت عنواننا أقول: إن أخطر ما يحصل الآن هي حروب المعرفة بعد أن وصل كل واحد لمعرفة قدرات الآخر، وعليها يتم الاشتغال، وبعد أن خمدت إلى حد ما أفكار الحروب العسكرية المباشرة ظهرت حروب المعرفة، التي أخذت تعيد أدوات العسكرة إلى حضورها، لأنها أفرزت المنظومات العلمية وتقنياتها الآخذة في التسارع بإرادة من القوى العظمى، والأسباب أكثر من واضحة، وأهمها تسارع النمو الفكري لدى أبناء العالم، وخاصة في عالم الجنوب والشرق، الذي أخذ يصحو ويدرك سياسات النهب الهائلة لموارده وطاقاته والفرض على إدارته منع استثمار وإدارة مقدراته، أو على الأقل الحصول على حقوقه منها، هذا الذي أنشأ الصراعات بين الدول العظمى والكبرى، وأخذ يسبب المرارات من نتائج أنهار الدماء التي غدت تخيف حتى مصنّعيها في أوروبا وأمريكا، لأن مخرجاتها من الكوارث الإنسانية طالت مجتمعاتهم، وأخذت تنال من فكرهم الذي بدأ يستفيق على الخوف من الوقوع في الحروب، التي إن حدثت فلن تكون سهلة، ولن تشبه أي شيء واجهوه سابقاً.
أخرج من كل هذا بالقول: إن النظام العالمي يحتاج إلى إصلاح فوري، وأهمه إصلاح المعرفة، التي وإن قدمت الكثير من التقدم إلا أنها قدمت الحروب على الإنماء، والإجرام على الإنسانية، فبدلاً من أن تحل المشاكل المتجذّرة عملت على تعزيز الصراع، ونقلته من حوار حضاري إلى عشوائي فوضوي تسود فيه لغة الأقوى.
د. نبيل طعمة