خيري الذهبي
نجم الأسبوع
الأربعاء، ٦ يوليو ٢٠٢٢
انطفأ أول من أمس في منفاه الباريسي، خيري الذهبي (1946- 2022)، بعد رحلة مكابدات طويلة، من دمشق إلى القاهرة ودبي وعمّان وصولاً إلى باريس. كان الراحل واحداً من الروائيين السوريين الذين سعوا إلى تجديد الخطاب الروائي المحمول على تاريخ مهتزّ، وجغرافيا ممزّقة، محاولاً تصحيح خرائط بلاد الشام، من موقع المؤرّخ في المقام الأول، رافضاً التركة الاستعمارية من جهة، ومشكّكاً بالنبرة القومية في صناعة المكان المتخيّل من جهة ثانية، محاولاً إعادة تشكيل دمشق بوصفها جنّة منهوبة ومستباحة وعصيّة على الآخرين.
هكذا أنشأ مدوّنته الخاصة طوال أربعة عقود، مراكماً تصوّرات تاريخية تنطوي على أفكار أكثر من عنايتها بالجرعة التخييلية، رغم سعيه إلى خلخلة البنى السردية بين عملٍ وآخر، في حركة صعود وهبوط، تبعاً لقوة الفكرة والمخيال الروائي. وسوف تسجّل ثلاثيته «التحوّلات: حسيبة، فياض، هشام» (1987)، حضوراً نوعياً في الخريطة الروائية السورية لجهة التحديقة المختلفة لصورة دمشق بوصفها واحة وسط صحراء تحكمها قيم متشدّدة، برصد تحوّلات عائلة في فترة زمنية تمتد مما قبل الاستقلال وصولاً إلى الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد. هكذا تواجه «حسيبة» قدرها التراجيدي ومصيرها المحتّم، بعد ما خرقت «ناموس المدينة السرّي» بارتدائها ثياب الرجال والعيش في الجبل مع الثوّار، ثم ستدفع ثمناً غالياً لهذا التمرّد، فتُحرم من إنجاب الذكور.
لعنة العشق التي تلاحق حسيبة، ستصيب الرجل في «هشام أو الدوران في المكان»، ليعيش دماراً موازياً يصل إلى الانتحار، بالإضافة إلى فجائع متلاحقة أكثر مأساوية وإحباطاً وخذلاناً، بما يشبه حالة خصاء، ستتكرر في بعض أعماله اللاحقة. «التحوّلات» هي درّة أعمال هذا الروائي بوصفها جدارية ضخمة تنطوي على موزاييك دمشقي، وهواء مختلف لواحة تعرّضت لموجات من الغزوات المتعاقبة. وإذا بالمكان الروائي يتخذ هيئته الاعتبارية وفلسفته الخاصة بالاتكاء على هندسة البيت الدمشقي وثراء موجوداته الداخلية بالمقارنة مع المشهدية المتواضعة خارجاً، وهو ما ينعكس على لغته المتقشّفة من جهة، والزخم العاطفي من جهة ثانية. التحديق في خرائط بلاد الشام، سيتكثّف، عملاً وراء آخر، نحو تعزيز حضور دمشق أو الشام الصغرى، وما تعرّضت له من مصائب ومحن وأعداء، وفقاً لمرجعيات موازية للتاريخ الرسمي. حاول تفكيك ألغاز هذه المدينة وأعرافها، ونهوضها حقبة وراء أخرى رغم انكساراتها، بتمجيد المركز وهجاء الأطراف، منتصراً للحكواتي على حساب متطلبات السرد، استجابةً لتأريخ شفوي للمدينة تشبعه رؤية سيرية وموقف فكري مسبق. فيختلّ الفضاء الروائي حيناً، ويلتئم طوراً: «في أعمالي الروائية، أستند إلى التاريخ ولا أعيد إنتاجه، أقتطع منه جزءاً، وأبني به وعليه شخصياتي وحكاياتي كي أضع القارئ في الظرف التاريخي والجغرافي والإنساني للقصة التي أريد سردها، لا أحبّذ مطلقاً ذلك السرد الذي يشبه منطوقنا، أو تلك الشخصيات ذات البعدين فقط.
أبحث دوماً عن شخصيات ثلاثية الأبعاد، وأتلاعب بالزمن كيفما احتاجت حكايتي» يقول. هكذا يلجأ في «فخ الأسماء» إلى لغة هجينة تستدعي الزمن المملوكي في ارتحالات بين فضاءات مختلفة، كمن يقلّب مخطوطاً مجهولاً وتحريره وفق رغبات المؤرّخ المعاصر، ولكن ببلاغة الأسلاف. وفي «صبوات ياسين»، يستعيد صورة المكتبة الضخمة التي أنشأها والده، بسياق آخر يفضح صورة المثقف وحيرته في كتابة سيرة الطاغية، معوّضاً خسائره بكتابة سيرة البطل الشعبي سرّاً، كحلم مؤجل. وسيستعيد الفضاءات نفسها تقريباً في رواية لاحقة هي «المكتبة السريّة والجنرال»، بتوسيع فتحة العدسة لتشريح زمنٍ راهن، معتبراً المكتبة ذاكرة الجموع. أمر يتيح له استخدام سرديات متجاورة ومتنافرة تمزج الحكاية بالسرد، والأسطورة بالوقائع اليومية، على خلفية فضاء بوليسي ونوستالجي لحطام البلاد. لا يمكن النظر إلى سرديات خيري الذهبي في محاولته ترميم هوية المكان بمنظار واحد. رغم شغفه بهندسة رواياته بأشكال مختلفة، إلا أن بعضها لا ينجو من سرد سكوني يأنس للأفكار أكثر من انخراطه بالمغامرة التخييلية، فيما تحلّق روايات أخرى عالياً، مثل «لو لم يكن اسمها فاطمة» إحدى أكثر رواياته شغفاً، مستنجداً بمعجم آخر أقل بذخاً وخشونة، وبجملة روائية بسيطة تواكب اليومي ومفرداته، في مشهدية تستمد عناصرها من مهنة الشخصية المحورية «سلمان». تنطوي الرواية على مفارقة سردية لافتة، يسعى عبرها إلى مقاربة منطقة روائية مختلفة عما أنجزه قبلاً، إذ طالما اهتمّ هذا الروائي السوري بتخوم التاريخ وتحوّلاته وعبوره إلى ضفاف شخصيات مأسورة في مصائرها الأكيدة. صورة فاطمة كما يرسمها كراوٍ إضافي لمجموعة رواة المخطوط، هي الوجه الآخر للوحات التي كانت ترسمها هذه المرأة مثلها مثل المدن الميتة، وما السيناريوات المتبدّلة التي يقترحها الراوي المجهول على عدسة المخرج، إلا إشارات للحال التي وصلت إليها البلاد اليوم. وبمعنى آخر هي صورة لمخطوط بحاجة إلى تنقيح وتصحيح، وإلى من يعيد كتابته على نحو مختلف: «كنت حريصاً على صنع لغة خاصة بي. هذه اللغة ليست متقعّرة وليست هشّة بل هي لغة روائية كما يجب لها أن تكون، ومن أحد الأخطاء التي يقع فيها السوريون تحديداً هو أنهم بالأصل صانعو لغة شعرية، والشاعر عادة يكون خادماً للغة فيحسنها فيضيع الهدف منها. اللغة خادمة للرواية لا العكس، وقد كتبت فصلاً كاملاً في روايتي بالعامية وأنا أتعمّد ذلك لأنّي أردت أن أقدّم الوجه الآخر للغة والشخصية والحس بما يجري» يقول.
من منفاه، سيستعيد دمشق بمنظار ذاتي، مرتدّاً إلى طفولته، وصورة دمشق الخمسينيات، ونهر بردى المتدفّق قبل أن يجفّ تماماً، فيمنحها اسمها المشتهى «الجنّة المفقودة... من القنوات إلى كفرسوسة». هنا تتناوب السيرة الذاتية بالتخييل الروائي، منقّباً فضاءت تلك الطفولة البعيدة التي تظلّلها أشجار الغوطة، ودفء البيوت الدمشقية وما تنطوي عليه من أسرار وأساطير وحكايات، كمن يلقي نظرة وداع أخيرة نحو المطارح الأولى التي لن يعود إليها ثانية.