رسالة إلى الغرب
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٩ سبتمبر ٢٠٢٣
آمل أن تدققوا، فما أخط حول انحطاط السياسة الغربية الذي بدأ بشكل عملي مع بداية الألفية الجديدة؛ أي منذ عام 2000م، بعد أن كان مختبئاً ضمن تلافيف عقله المُظهر للخداع البصري، وإذا عدنا إلى تلك البداية وسرنا مع حركة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، خلال هذين العقدين والنيف، بغاية أخذ العبر والتنبه والاتعاظ من تصرفاته وسياساته وأساليبه الخفية والكهينة التي مارسها، ومايزال، حتى اللحظة التي أكتب بها عنواننا وما يقع على خط بصركم، وهذا لا يبرىء سياساته السابقة التي غلفها بعد هزيمته في جنوب شرق آسيا، لا سيما في "فيتنام" وانسحابه مضطراً بغاية تجميل وجوهه وتقديمها على أنها تتفهم انتفاضات الشعوب الساعية للتحرر من هيمنته، على الرغم من رحيله الشكلي عنها، وعودتي إلى بداية الألفية مرة ثانية من أجل مناقشة هذا الانحطاط السياسي، وبشكل خاص انعكاسه على منطقة الشرق الأوسط برمته، وأهمه وطني سورية الذي كان كل الشرق الأوسط وأقصد الكتلة التاريخية السورية الأكبر فيه من الأهواز إلى طوروس، إلى صحراء النفوذ في السعودية حالياً، إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط برمته، ومن ثم بلاد الشام؛ التسمية الإسلامية التي كانت من الفرات إلى العريش المصرية، وما طرحه فكر أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي باسم سورية الطبيعية؛ أي بلاد الشام، إضافة إلى قبرص، هذا الغرب الذي يعمل ليل نهار على تقسيم وتجزئة هذا الوطن، ونحن الباقي منه الآن، هذه الكتلة التي يعتبرها العالم مهداً للحضارات وموئلاً لولادة وظهور الديانات، ومركزاً للإشعاع والإبداع، هذا الذي إن استقر استكان حوله كل شيء، ومن أجل أن نفهم حاضرنا علينا أن ندرك هذا التحول المفصلي في عالم الشمال، وأهمه الغرب وأمريكا، فهل حاضرنا تأسس على الانهيار؟ أم أنهم ولحظة شعورهم ببداية الانهيار أخذوا على عاتقهم تفكيك العالم برمته، نتاج حدوث الركود الاقتصادي والتنازع السياسي على الديمقراطية أو الاشتراكية، على اليسار أو اليمين (المحافظون والجمهوريون) ونمو التطرف والعنصرية، إنهم يخافون الانهيار، وخوفهم هذا دفعهم لضرب أي استقرار في العالم، أينما وجد، عبر إحياء التطرف الديني والمذهبي والعقائدي، ودفعوا بالجميع إلى موجات من الفتن والحروب أدت إلى تدمير البنى وفرط العقود الاجتماعية، وأهم من كل هذا اشتغلوا على قتل الإيمان وتحويل الإنسان إلى آلة، ولم يدركوا "أن ليس بالعقل وحده يحيا الإنسان" بل بقلبه أيضاً ومشاعره وأحاسيسه وانتمائه إلى جغرافيته، وثقافته التي تعيده إليها مهما ابتعد عنها.
الانحطاط الغربي في السياسة نتاج الانحلال، والانحطاط الأخلاقي وانهيار الحضارة الإنسانية التي عملوا على تدميرها، ووصلت إلى درجات خطيرة بسبب فلاسفته الذين وضعوا أسس الليبرالية القديمة الحديثة "كانت" "Immanuel Kant" وشيخ فلاسفتهم " نيتشه " "Friedrich Nietzsche" الذي كتب عن موت الإله الروح لمصلحة الإله المادي الذي تمسك به الغرب، وحقيقة الأمر أن الشعارات البراقة التي ظهرت في الغرب (الحرية والديمقراطية والليبرالية) ارتكست بفضل صعود التشكيلات اليمينية المتطرفة، والتي تنامت بقوة في العقدين الأخيرين بشكل خاص، وغدا كل الغرب يمينياً متطرفاً في جوهره، حتى وإن حافظ البعض على الشكل الديمقراطي، لكنه أخذ يُظهر عداءه للفكر الديمقراطي الحقيقي ولقيم التنوير الفكري الإنساني لحساب هيمنة المادة والفوقية والعنصرية، الأمر الذي طرح سؤالاً في الفكر العالمي تجسد عن معنى فكرة التقدم الحضاري وتفوق الإنسان على الإنسان.
لا يمكن للغرب أن يتفوق على الشرق مهما بلغ من قوى مادية، والسبب أن الشرق، إضافة إلى عقله، لديه القلب والمشاعر، وأهم من كل ذلك لديه الإيمان الذي أخذ أبعاداً جديدة لا تستند فقط إلى الماورائيات، وإنما إلى التحليل المنطقي للإيمان، وهذا بحد ذاته ما يدفعه للتطور بسرعة هائلة لامتلاك نواصي قدراته، والسبب أنه لم يعد يحتمل هلوسات الغرب برمته، وشعوره بأن اليمين الصاعد فيه سيؤدي حتماً إلى تدميره.
الهلوسة التي أخذت تسيطر على عقل الغرب وتصلفه أصابه بأنواع من النشوة البهيمية التي هيمنت على قياداته وانعكست على قراراته السياسية والاقتصادية، لكنها أصبحت مكشوفة لعوالم الشرق والجنوب الذين أخذوا على عاتقهم لفظ هذه الأفكار وهذا الوجود وهذا الصراع، للاستحواذ على موارد القارات الخمس دون استثناء، رسالة إلى الغرب خطَطْت فيها بعضاً مما يجري فيه، ومحاولات بنائه جداراً عازلاً يفصله عن الشرق والجنوب، مع احتفاظه بحق غزوه بكل أنواع الخطيئة وقصفه بالأسلحة الدقيقة ونهبه كامل ثرواته، دون إدراكه بأن العالم لم يعد يحتاج إلى هذه الاستراتيجيات التي تجسد القتل والتدمير والاحتلال والتجزئة؛ بل إلى معادلات توازن في القوى، وإلى السلام والتصالح، رسالة إلى الغرب آمل أن تدقق وأن يستخلص منها العبر.
د. نبيل طعمة