زمن اليوم
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٢٩ أغسطس ٢٠٢٣
يمضي إنساننا الممتلئ بالشك ـ رغم ما ينطوي عليه من مقاصد وأغراض ـ إلى غده بإرادة أن يحيا بسلام، طالباً أن يكون له صديق إنسان يتبادل معه قسوة يومه نتاج ما يجنيه من كوارث اصطناعية ـإضافة لكوارث الطبيعةـ ويقارن بينه وبين إنسان الحياة، وما أندره، لأنه يؤمن بالثبات أمام الخطوب وأن الموتى يُخلون أماكنهم تاركين ما لديهم للأجيال، مدركاً أن قيمة الحياة لا يمكن التنازل عنها بأي ثمن، وواعياً لمفهوم القيامة الروحية من اللحود، ولكن التمسك بمبدأ المحافظة على حياة الفرد وتحقيق سبل السعادة فيها من عظمة الفكرة ما يدعو للأخذ بها، ومن هنا نجد ولادة مبدأ آخر يتجلى في تضحية الفرد من أجل المجموع، وفي رأيي أن هذا يحمل سموّاً وارتقاءً إنسانياً إيجابياً ونوعياً، ومن أجل نجاح الإنسان وتطوره يجب أن يقف المبدآن جنباً إلى جنب نتاج أخذ المجتمعات بفكرة الانقسام السرطاني الذي أخذت تظهر نتائجه وتشير إلى انهيار المبادئ والقيم، حتى كدنا لا نجدها إلا في ندرة الندرة، وها هو العالم اليوم يؤكد أنه لم يعد يطيق تنوع الحضارات وتنافساتها لأنها لم تجلب له إلا الأسوأ ـ رغم ما تقدمه من وسائط راحة وسرعة في التنقل والتفاعل ـ لذلك نجد أن إنسان اليوم بدأ يرفض كل أشكال الحضارة، وإن كان من إيمان لدية فحلمه أن يجد حضارة تضم أسمى مبادئ الأمم وأنبل أفكار الإنسانية التي لا تفرق بين إنسان وآخر إلا من خلال ما يقدمه للحياة.
زمن اليوم يؤمن بأن الروح مصدر الخلود، يرافقها ما ينتجه الفرد من خلال ما يمتلكه من علم، الذي ومهماً بلغ الإنسان منه، يقف عند حدود تُريه حجم قدراته ومعها يعرف أن شيئاً ما يقف خلف هذه الحدود ويتجسد بالروح التي عجز العلم حتى اللحظة من الوصول إليها، لتتفوق بصيرة روح الوجود على بصيرة الإنسان العلمية، ولا يمكن للعلم أن يثبّت أقدامه إلا إذا فهم جوهر الحياة ووجودها الحي التي تحمل خفة الروح وسلامة الحركة وقوة المنطق، هذه التي لا تحضر إلا إذا تمتعت بالحكمة "ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" ومعها نشاهد أن عملية الخلق تمثل طريقة عمل الفرد أو أداءه الذي من شأنه أن ينجز عملاً مفيداً ينتج من قدراته، وإذا تفوق عليها غدا خلاقاً من خلال تحقيقه ما ينقص الآخر ويفيد المجموع، إذاً زمن اليوم اكتشف إنسانه به، أي لا صراع حضارات ولا خلافات أديان، بل وفي حقيقة الأمر صراع أفكار وصراع عقول؛ أي صراع إنسان مع الإنسان، ولا علاقة للخالق الذي أوجده وعاد الإنسان ليوجده بالفعل ويسكنه في القلب ومنه نجد ان العقل قابل للانقسام ودليلنا تنوع الإنسان العقلي.
وإذا كان إنسان اليوم يبحث عن الحق فليس الحق كياناً مجرداً أو صفة أو جملة، إنما أعود وأكرر أنه طريقة عمل تخلو من المشاغبة والتوتر وتؤمن بما يحتاجه الغد الذي يهيّىء له زمن اليوم الحاضر، وزمن اليوم تطور كثيراً في فكر الإنسان مما دعاه لتطوير مستمر للمنتجات الصناعية والتقنية، إلا أنه تخلف إلى درجة مخيفة في مقتضيات الثوابت الإنسانية التي أخذت تفتقر إليها المجتمعات، وأهمها المنتجات الأخلاقية، وغدت تبحث عنها لأنها تجسد الطمأنينة والسلام والأمن والأمان، فإنسان اليوم يتطلع إلى يقظة الحس، ووعي الفكر ؛هاتين اللتين يعتبرهما نتيجة حتمية لنمو ضمير الإنسان الذي توقف عن النمو لمصلحة القوة والمادة والجشع والشراهة، وهنا أخص بهذا طبقةَ خاصة الخاصة، لأن العامة حتى وإن كان ضميرها واعياً وصاحياً وإن كان ينمو فلا يجدي لأنها لا تمتلك لا الإدارة ولا الإرادة، بحكم أنها طبقة تنفيذية تنتظر الأوامر والطلبات من هنا أو من هناك، وإذا اعترضت أو نبغ منها أحد فسرعان ما ينضم إلى تلك الطبقة أو يسقط دون عودة، وإنه لشيء محزن أن يكون النفاق في زمن يومنا هذا جواز المرور إلى الأعلى، والتكاذب مشروع ولغة (دعْه يمر) هي السائدة، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على فقدان المجتمعات كثيراً من قيمها ومبادئها ونزع الوجدانية والنبالة من ذاتها.
هذا الذي أوجزته في سطور لا يعني أبداً فقدان الإنصاف أو انعدامه بل أؤكد على وجوده في عالم الكونية الروحية، وأيضاً في عالم الإدارة المادية والسياسية، وفرضية المُخلّص التاريخية تشير إلى الإنصاف الروحي للمخلِصين الصادقين حيث يُهيّأ لهم من يعمل على إنصافهم مهما بلغت قوى التعمية التي انتشرت وهدفها التلاعب بالحقوق.
د. نبيل طعمة