ساطع الحصري
نجم الأسبوع
الأحد، ٢ فبراير ٢٠٢٠
ربط ساطع الحصري حياته بالقومية العربية حتى آخر لحظة من حياته، وأعطاها كل مالديه، وكان مخلصاً لهذه الفكرة السامية، وابناً لمرحلة تميزت بكل التقلبات القاسية.
استعادت ندوة الأربعاء الثقافية من «قامات في الفكر والأدب والحياة» الفكر القومي الذي لايخبو ولو عصفت الأزمات والتي كانت بعنوان: «ساطع الحصري بين النظرية ورجل الدولة».
المرتكزات القومية
ولد ساطع الحصري في العاصمة صنعاء، وينتمي إلى أسرة من الأشراف في حلب، ودرس في المدارس التركية وتلقى تربية استانبولية وغلب على تفكيره الصبغة التركية، ما يلفت الانتباه انقلاب الشخصية بين ليلة وضحاها، بين متحمس للطورانية ولسياسة التتريك إلى حامل للواء القومية العربية، وأصبح رائداً من روادها. وتحت عنوان «المرتكزات القومية عند ساطع الحصري» قال د. علي دياب:
كان الحصري علمانياً، وحاول فصل درس الدين عن دروس اللغة العربية التي كانت في السابق مشتركة في منهج واحد، وألف مجموعة من الكتب كرسها للدفاع عن القومية العربية، ورد فيها على دعاة الإقليمية والنعرات الطائفية. وقف الحصري عند وجود الأمة وكيف ننظر إليها، وعدّ عامل اللغة هو الأساس في تكوينها، واستشهد بجمال الدين الأفغاني الذي ينظر أن اللغة هي العامل الأول مع عامل الدين، وأنا أقول إن هناك مبالغة في إعطاء عامل اللغة هذه الأهمية، وهذه نقطة ضعف في التفكير القومي، فقد تم نسيان علاقة الإنسان بالطبيعة والتاريخ والثقافة، هم ألحقوا الثقافة باللغة وهي لم تصنع التاريخ القومي بل هو الذي يصنع اللغة.
اللغة هي عامل الأمة بامتياز ولا تتحول إلى لغة قومية إلا في التاريخ، ولكن يجب أن يتقدم الانتماء إلى الأمة على أي انتماء آخر، فنكون مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
تأثر الحصري بنظرية ابن خلدون الذي يؤكد أن الدين لا يمكنه إنشاء جماعة سياسية، بل يقتصر دوره على تعزيز مشاعر الجماعة، وبالتالي فإن وجود الأمة أسبق منطقياً من وجود الجماعات الدينية، ولما كانت الأمة تحدد بلغتها فإنها تشمل جميع الناطقين بها
يفرق الحصري بين الثقافة التي عدها قومية والحضارة التي عدها أممية، ودافع عن قومية الأدب وكان ضد إقليميتها، فكان يقول هناك أدب عربي ويوجد أدباء من مصر ولبنان وغيرها ولكن هو أدب عربي.
الهوية والدولة
لقد كان ساطع الحصري من أكبر مفكري العرب القوميين، لقد احتفظ بدوره كمفكر ومرب قومي بعيداً عن المعترك السياسي، وتحت عنوان «مفهوم الهوية والدولة عند ساطع الحصري» قال د. فارس النداف:
لقد مر ساطع الحصري بثلاث مراحل، الأولى مرحلة الشباب وتخرجه من المدرسة الملكية الشاهانية بتفوق في الرياضيات والعلوم الطبيعية، وعمل مدرساً في أقاصي الدولة العثمانية الغربية في أوروبا، ثم انتقل للعمل في السلك الإداري، فعين قائم مقام في ولاية قصوة على حدود النمسا، واتصل بجميعة الاتحاد والترقي وأنشأ مجلة تربوية، كان دائم الزيارة للعواصم الأوروبية واستطاع من هناك أن يكون على صلة بنتاج الفكر الغربي واطلع على النظريات القومية.
ترك تركيا وانتقل للبلاد العربية، ولازم فيصل الأول الهاشمي وأسهم معه في بناء أول دولة انبثقت عن الشريف حسين وعمل وزيراً للمعارف في آذار 1920 ثم اضطر للخروج في السن نفسها لأنه كان شاهداً على أفاعيل الاستعمار، فحفظ الوقائع عن ظهر قلب ثم دعمها بالوثائق ليضع «يوم ميسلون» الطبعة الأولى عام 1945 وهو من أكثر كتبه التي كان لها وقع في النفس، والتي دفعته إلى مطاردة أسباب التجزئة لدى الأحزاب والهيئات السياسية والإقليمية والوحدوية ومحاسبة رجال السياسة على أقوالهم وأفعالهم، كما دفعته إلى مساءلة التاريخ عن عوامل الوحدة القومية ومقوماتها.
وفي المرحلة الثالثة عاد إلى سورية بعد استقلالها فعمل مستشاراً فنياً لوزارة المعارف، ووضع أسس تعريب نظام التربية، وفي عام 1947 انتقل إلى مصر وألقى محاضرات في نشوء الفكرة القومية.
يسأل الحصري ما القومية أو ما الأمة؟ وهنا الحصري لا يميز بين القومية والأمة بل يعتبر الكلمتين مترادفتين، فكلتاهما تشيران إلى وجه من أوجه ارتباط الفرد بالجماعة التي تمنحه حق المواطنة، وهو بالمقابل ينتمي ويدين إليها بالولاء.
إن الحصري يستبعد من مكونات الأمة الدين والدولة والحياة الاقتصادية وأيضاً العرق وينسى أن الأمة اختلطت على التوالي مع كل هذا، ففي بلاد الإغريق اتحدت الأمة لحد بعيد مع المدينة والدولة، وكذلك في إيطاليا منذ النهضة وحتى وحدة هذا البلد القومية في العصور الوسطى وكانت الأمة والدين شيئاً واحداً.
الحصري من الطورانية إلى العروبة
من غير الممكن فهم الفكر القومي عند ساطع الحصري بعزل عن الفهم العميق لحياته الشخصية، وعن حياته من الطورانية إلى القومية العربية قال د. علي إسبر: نحن إزاء شخصية تركيبية إلى أقصى حد جبلتها الأحداث والتجارب والأسفار، فاكتسبت خبرات نظرية وعملية هائلة، ويقصد بالحياة الشخصية ما يتعلق بالمسارات والتحولات والانعطافات الكبرى في حياته، والتي يسعى من خلالها إلى بيان حقيقة انتقاله من كونه إنساناً خاضعاً للحكم العثماني التركي ومتماهياً معه إلى كونه إنساناً رافضاً لهذا الحكم ومستعداً لمواجهته.
عاش ساطع الحصري منذ نشأته الأولى في مفارقة وجدانية أو في تناقض داخلي بين كونه عربياً وكونه مسلماً، والحقيقة أن استغلال العثمانيين للدين الإسلامي من أجل إلزام العرب المسلمين بالخضوع لهم دفع ساطع الحصري إلى أن يضع نظرية الشجاعة في فلسفة الدين، فقد ارتأى أن الوجود القومي لشعب من الشعوب يسبق على نحو ضروري أي نوع من أنواع التفكير الميتافيزيقي أو الغيبي، لذلك فالوجود القومي أعلى شأناً ومنزلة من أي وجود ديني أو روحي.
ويستنبط ساطع أنه لا توجد علاقة بين القومية والدين، بمعنى أن القومية لا تمنح وجودها ولا تستخرجه من الدين، ولا الدين يتوقف على قومية من القوميات، وعلى هذا الأساس لايجب في رأي ساطع الحصري أن ننظر إلى أنفسنا بصفتنا مسيحيين أو مسلمين قبل أن نفهم أنفسنا بصفتنا عرباً، فالعروبة أولاً وأخيراً هي أساس وجودنا بصفتنا شعباً، هذه الحقيقة التي جرت عليه الكثير من العداوات وصل إليها بعد أن عانى واكتشف في تجاربه العميقة عبر حياته المديدة أنه لا نهضة لأمة بمعزل عن عنصر جوهري موحد وجامع لها.
ومن الأحداث التي أثرت وأحدثت انعطافاً جوهرياً في حياة ساطع هي أن جمعية الاتحاد والترقي اتصلت به وكانت تدعو إلى الانقلاب على منظومات القيم العثمانية على جميع المستويات، وشهد ساطع كيف استطاع حزبا الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة فصل الدين عن السياسة، ثم جاء الانعطاف الأكبر في حياة الحصري بعد أن توج فيصل بن الشريف حسين ملكاً على سورية عام 1918 ودعا ساطع الحصري لتولي منصب وزير التعليم في أول حكم عربي مستقل عن الأتراك في سورية، هذه الدعوة جاءت لتؤكد أن ساطع كان عاشقاً للعروبة ولعب دوراً في الثورة العربية الكبرى، وبانت عبقرية ساطع حينما بنى وحدة العرب على لغتهم، فاللغة ليست شيئاً عارضاً بالنسبة إلى الكينونة الإنسانية، وإنما عنصر موحد للشعب أكثر من الدين فقط، بل أكثر من التاريخ المشترك أيضاً.
رجل الدولة وبيئته
المفكر الوحيد الذي استنبط من التجارب وأخذ من الأمم وقدم بإخلاص هو ساطع الحصري، وعنه كرجل دولة قال مدير الندوة د. إسماعيل مروة في بحثه:
يوجد إشكالية أن كل شخص يحاسب هؤلاء القامات لظرف اليوم، وهناك من يشكك بعروبة ونظرية ساطع الحصري عن جهل أو حقد لأنه درس في مدارس الأتراك وعمل في الدولة العثمانية.
ساطع الحصري في أهم كتبه يقول: «ثمة فرق بين البلاد والدولة»، فهو لا يصف الدولة بالقومية وإنما يرى الفكرة القومية كانت سبباً للبحث عن مفهوم الدولة، ودعا إليها حسب التكتل وتشكيل الهوية، ففكرة القومية كانت طريقاً لنشوء الدولة. عمل ساطع الحصري عملاً إدارياً في البلقان الذي مهد له الطريق لمعرفة النظرية القومية، وله كتاب بعنوان «نشوء القومية» يتحدث فيه عن القومية الألمانية والنمساوية والقوميات المتعددة التي شهد تكونها، وأغلبها كانت تحت هيمنة الدولة العثمانية. لم تكن فكرة القومية العربية بدعاً من ذهنه ولا اختلاقاً ولا خلقاً من لا شيء وإنما من خلال رصده القوميات الأخرى التي تشكلت أمامه، ووجد أن القومية ترتكز على اللغة والتاريخ فهما العاملان الأصليان المؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات، ويمكن القول إن اللغة بمثابة روح الأمة وحياتها والتاريخ بمثابة وعي الأمة وشعورها.
أفادت تنقلات ساطع الحصري في الاطلاع ليوجد شيئاً لم يكن غيره يأتي به، وهناك قضية مهمة في فكر ساطع الحصري، فهو الوحيد الذي جاء بآراء فكرية وأخلص لها دون أن ينتمي سياسياً أو يؤسس لتيار سياسي.
مر الحصري بثلاث مراحل: الأولى مرحلة التعلم، عندما كان قائم مقام في الدولة العثمانية، فكان عثمانياً وطورانياً لكن ضمن العمل الوظيفي وكان قد استغلها في المراقبة والكتابة ورصد أسماء الذين أنشؤوا القومية التركية، والمرحلة الثانية مع الملك فيصل: يقول ساطع الحصري كنت مديراً في حكومة المديرين ثم وزيراً وبقيت حتى معركة ميسلون ورحيل الملك فيصل، وفي هذه الوزارة ترك ساطع الحصري أمرين مهمين: كل ماتجود به كتب المدارس عن معركة ميسلون هو لساطع الحصري، والكتاب الوحيد الذي أرّخ لميسلون هو له، ترك لنا وثائق كاملة عن يوسف العظمة وغورو.
والمرحلة الثالة لرجل الدولة هي في العراق التي قضى فيها عشرين عاماً إلا شهرين وفي هذه الأعوام عمل في أكثر من مكان حيث كان رئيساً لكلية الحقوق وأسس للمعارف وسن قوانين كثيرة.