شبكات التواصل
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١ نوفمبر ٢٠٢٢
تأثيرها في البيئة الاجتماعية مثير، وأغلب الناس غافلون عن أهدافها، لذلك أخذت آثارها بشكل واضح وجلي على معاملات الناس لبعضهم في أرجاء المعمورة، ولم يقتصر الأمر اختراقها للأخلاق العامة والخاصة، بل تعدّى تأثيرها في البيئات المحيطة بشكل لا يمكن تخيّله، وليس السبب الهواتف المحمولة، إنما يكمن في المعلومات التي يستهلكها كل فرد من هذا العالم، من خلال منصات شبكات التواصل الاجتماعي التي هيمنت على العقول عبر فيسبوك وتويتر، حيث تضخ كماً هائلاً من الأكاذيب، وتنتشر كالنار في الهشيم، لتعبث بالمعلومات الدقيقة، فما تقدمه من إثارة ضمن المحتوى لا يحمل الدقة، وهو مضلل في الأساس، لأن غايته كذلك، وتكمن في خلق التفاعل الذي يجذب للمشاركة، والأهداف دائماً تحقيق الربح السريع مع ضخ سريع ومتغيّر للمعلومات، تتناسب مع ميول الأفراد والأيديولوجية والسياسة الدينية والجنسية والثقافية، هذه الشبكات التي تشعر مريديها بأنها تتوافق مع اهتماماتهم ومصالحهم وأحلامهم وآمالهم، كما أنها تشعرهم بأنهم ليسوا بمفردهم، وبهذا تحقق هذه الشبكات أهم غاية لها، ألا وهي إغراق الحقيقة إلى أعمق مدى، بحيث لا يطولها إلا الباحثون عن الاهتمام بها.
إن تحقيق أكبر ضخ للكذب على هذه الشبكات يأخذ بالناس لعدم تصديق أي شيء أو أي أحد، ما يؤدي إلى الابتعاد عن الحياة الاجتماعية والسياسية ونمو الفردية التي تهدم الفكر الاقتصادي البنائي، وإلى النظر في المستقبل على أنه ماضٍ نرويه بوجوه متجددة لا أكثر ولا أقل، وهذا ما يشعرنا بأننا لا نملك خيارات انهياراتنا أمام ما نعتقده بأننا نحرز تقدمات، وما هي إلا حالات من الترفيه الغبي، حيث التخلف يتجلى على الاستثارة أمام ما تظهره من عناصر جاذبة للحياة. والوقائع تشير إلى أن أدمغة البشر في حالة انهيار، وهي تائهة بين البحث عن التعميم وسبل خلاصها من الجحيم، فالذي تمارسه البشرية اليوم ما هو إلا تسارع في خلق العداوات، والكل غدا أعداء، ولم تعد هناك صداقات على الأرض، ولا على القمة، بل تنازعات أنهت كل ما هو إيجابي، وظهر الإنسان عارياً، لأنه المخلوق الوحيد الذي يخجل، لأنه الوحيد الذي يفعل ما يُخجل من هذا الذي أخوض غماره.
أقول: بدأت التأثيرات الأكثر تآكلاً لشبكات التواصل الاجتماعي تبدو تماماً مثل ما توقعه الناقد الثقافي "نيل بوستمان" منذ ما يقرب من أربعة عقود في كتابه التاريخي بعنوان: "تسلية أنفسنا حتى الموت"، فقد لاحظ أن المجتمعات والأسر المكونة لها لم تعد تتحدث إلى بعضها بعضاً، لم يعودوا لتبادل الأفكار، ولا اكتساب النصائح، ولا الاستماع لبعضهم، بل هم يتبادلون الصور والمشاهير والإعلانات والنكات والقصص الفارغة، وأنا أضيف: تجد الأسرة الواحدة متفرقة في المنزل الواحد، وكلٌّ منشغل على الشبكة دون البث ببنت شفة.
إن هذه الشبكات وعلى الرغم من أهمية إسهامها في التواصل وعلى الصعد كافة، إلا أنها في الوقت ذاته تشكل أيضاً أرضاً خصبة للتطرف اليميني واليساري، وإشعال جذوات الطائفية والمذهبية والصراع بين الدول والأديان بعد التجسس على أفكارها ومنطلقاتهم النظرية والعملية.
مقدرة هذه الوسائط هائلة، تخترق الخاص، وتتنصت، وتبتز، وتنهي برامج، وتزرع ما تريده، إن الملاحظات عليها كثيرة ومثيرة للقلق، لأنها غدت هائلة السيطرة على العقل البشري، وضخمة في معلوماتها المضلة والمؤثرة، وهناك البعض ممن يقول: إن مشاكل هذه الشبكات عابرة، لأنها حديثة العهد، وتعزي السبب إلى إساءة استخدام أدواتها من المتمردين والديماغوجيين وقليلي الخبرة والعبرة، وإن تقييم مخاطرها يحتاج إلى ضوابط يتم العمل عليها، ليس فقط من مديرها، وإنما ضمن الدول التي يستخدم مواطنوها هذه الشبكات، مثل إنجاز قوانين تنظيم العلاقة بين أفرداها والدولة.
إن الانسان مستخدم لهذه الوسائط هو هدفي من كل ما خططته حول هذه الوسائط لأنه هو الفاعل والمتفاعل وهو المستفيد من كل هذه التكنولوجيا التي أدعوه لفهم إمكاناتها واختياره ما يفيده منها ويحسن من نشاطه المتعدد الجوانب لذلك أجد أن السعي وراء ايصاله للتفاعل الصحيح هو الغاية من كل ذلك.
د. نبيل طعمة