شخصية الدولة.. إنسانية
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٩ أبريل ٢٠٢٤
الحياة الإنسانية ممتلئة بالفكر والعمل، واندماجهما معاً يؤدي إلى جعل الحياة شيئاً مهماً وذا معنى، فالفكر يشكل القدرة الإنسانية الرئيسة، بل الوحيدة، لحل أي مشكلة ناشئة أو طارئة في أي عمل، وبدون وجود العمل لا يمكن أن تظهر المشاكل، والحياة اليوم نزاع مستمر؛ نزاع لا نهاية له، ليس فقط بين القديم والجديد أو بين عالم الروح وعالم المادة، كما أنه ليس نزاعاً عدائياً في المطلق بل نزاع مرغوب النقاش فيه من باب دفع الروحي لمواكبة العلمي، فالإنسان العلمي أتى نتاج الفكر فأبدع، بينما الإنسان الديني ظهر من النقل فاستقر واستسلم، ولا هدف من ذلك سوى مواكبة التطور والتقدم؛ أي ديمومة النجاح لتغدو الحياة أكثر إنسانية وكي تسفر شخصية الإنسان، ابن دولته والمشارك في وجودها وإدارتها، عن قيم استثنائية ينبغي أن تحظى بالقدرة على متابعة سلوكه ضمن مسيرته وعلى كل مساربه.
في الوقت الراهن لا مكان كبير للإنسانية عند الساسة والعسكر ولدى مالكي رأس المال، على عكس الشعوب الممتلئة قلوبها بالطيبة إضافة لتدين معظمهم، وفق فلسفة القطيع، إذ تقوم بالتعبير دون التفكير في نتائج ميلها إلى هنا أو إلى هناك، مع أنها هي المنجبة لجميع صنوف القادة، سياسيين وروحيين واجتماعيين واقتصاديين، لذلك ظهرت عبر العقود الأخيرة أزمات خطيرة ومشاهد لا يتخيلها عقل إنساني، كالحرق والسحل وقطع الرؤوس والتدمير الممنهج، وليس آخرها الإبادات الجماعية، وهذه المقاومة القادمة من أعماق التاريخ والمسكونة في ذاكرة البشرية، وأوضح مثال على ذلك ما يحدث الآن في "غزة" بفلسطين، إضافة للأحداث الحاصلة في روسيا الاتحادية وآخرها تفجير مبنى "كروكوس" الإنساني في ضواحي موسكو، كل ذلك أعاد ظهور الأسئلة التي لم تجد الإنسانية أجوبة لها لا في الأيديولوجيات ولا في المنظومة الأخلاقية، لأن ما يجري يرينا الوضع المأساوي المستفز بشكل خطير للأعصاب، والمستعد دائماً للذهاب إلى أقصى حدود الشر؛ هذا الذي لا يؤمن بأي حوار، وهو المصر دائماً على أن من يختلف معه، وأقصد الشر طبعاً، أو يخالفه، غير مؤتمن ولا أمين، ويعتبر ساقطاً مباشرة في أتون التخوين أو الرمادية التي تنتظر ميل الكفة إلى هنا أو هناك.
عالم ممتلئ بالدول المتفاوتة، القوية والمتوسطة القوة والضعيفة، حاله كحال الناس في هذا الكون بطبقاته الثلاث، غني وفقير ومتوسط الحال، وهنا تكمن مهمة الدولة في ربط هذه الفئات ببعضها ومنعها من الانفلات على بعضها، ومنع التشدد بكل أشكاله، ومنع إرهابها وابتزازها لبعضها، وإلا لما كان هناك مسمى يدعى دولة أو دول، بما فيها من القادة والساسة والحكومات والإدارات، بحكم أنها ظاهرة على شعوبها من شعوبها، فهل يُعقل ألا تمتلك الدولة إنسانية وحكوماتها قادمة من مجموع إنسانها، وما شخصية الدولة إلا من مجموع الصفات والمزايا التي يتحلى بها أبناؤها، رغم وجود التمايز فيما بينهم، كما أنها مجموعة الصفات العقلية والخلقية والجسمية والإرادية التي يتوج بها الإنسان، إضافة إلى أنها تمتلك مضافاً يتجسد في الاستقلال الفكري المترفع والمستفيد من فكر الكل، ليُظهر عقلاً جامعاً مانعاً للخلل ليتمكن من تحقيق العدالة، وبه ترتقي عن أفرادها لتستطيع رؤية المجموع، وهي بذلك تكون كالحب والكره اللذين لا يمكن تعليلهما لأن شخصيتها تقف بينهما؛ أي بين الجميع، فتكون لغتها واقعية ذات منظور شامل من الوراء إلى الأمام، بفعل حضورها الذي يجب أن يتحدث عن أهم صفة فيها وهي أنها على مسافة واحدة من الجميع، مما يؤكد ضرورة حضورها، والغرض الرئيس في شخصية الدولة أن تؤصّل في أفرادها الشخصية المؤمنة بالالتزام والنظام العام والانتظام الأخلاقي، لأن نظام الحياة قائم على الانتظام وبدونه هناك الانفلات، وعندما يعترض الأفراد يعترضون على الطرق التي يسود فيها النظام، على غير ما وُضع له، بغاية التنبيه للعودة إلى الانتظام لا لتجاوز النظام أو العبث فيه.
تبقى الدولة، وكما تحدثت، متفاوتة الصفات نسبية الحضور تمتلك القوى والسرية، وكلما امتلكت منها الأكثر تحضر بشكل أكثر، إلا أنها لا يمكن أن تتخلى عن إنسانيتها، وقد يسأل البعض هل للدولة شخصية إنسانية؟ أقول: مؤكد أن لها هذه الصفة التي تتجلى بتطبيق القانون؛ أي تحقيق العدالة وصون الحقوق وضبط المجتمع من اعتدائه على بعضه، والمحاسبة على كل صنوف الخطيئة، وهي هنا تتشابه تماماً مع صفات الإله ومع الإنسان بما يحمله من خير وشر، فإذا فقدت هذه الأدوار تنتهي الدولة وتتحول إلى مسميات أخرى، حتى دول الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، تقاتل، كما أي دولة تقاتل، من أجل الحفاظ على حضور شعوبها، بينما هي نفسها تمارس اللا إنسانية على باقي الشعوب، وبذلك تفقد شيئاً يعتبر من أهم ما تملكه شخصية الدولة وهو الإنسانية والإحساس بها، أعود لأؤكد على ذلك بمثال ينطبق على أمريكا بشكل خاص، فقبل عقود عديدة من الزمن زارها (أوسكار وايلد) أديب وكاتب إيرلندي، وعندما دخل ميناء نيويورك استوقفه شرطي الجمارك وسأله هل تحمل معك ممنوعات فأجابه نعم أحمل معي إنسانيتي المفقودة لديكم.
أختم بأن مسؤولية الدولة مسؤولية إنسانية، رغم تمتعها بالفكر السياسي والعسكري والأمني، فهي القادرة بعقلها الواسع والكبير أن تحمي أفرادها حتى من أفكارهم من خلال متابعة سلوكياتهم، وتحمي حدودها وتقود تأمين حركة الحياة لشعبها واستمرارهم فيها.
د. نبيل طعمة