صراع العقول
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٦ يونيو ٢٠٢٣
الجديد الحديث، يحياه إنسان عصرنا قلقاً على القيم الحضارية، ومشفقاً عليها من الزوال، فإن لم نستثمر في الإنقاذ، فمؤكد أنه سيأخذنا الانهيار، وبين متطرف بالمادية "الديالكتيك" ومتعلق حتى النخاع بالديمقراطية الغربية، ومتشدِّد في الدين حتى العصبية المقيتة، وأيضاً تجد المتأسلم والمتصهين، والكل تراه متحمساً لنظرية مذهبية أو أيديولوجية، ما يدفعه إلى التطرف يميناً أو يساراً، وبينهما تطبيع الهوية، ويفقد الانتماء، هؤلاء جميعاً في مجتمعنا المعاصر، وبشكل خاص نحن أبناء الأقطار العربية.
صراع عقول محتدم بين الأفكار والأعمال والطوائف والمذاهب، بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، كل هذا يولد سؤالاً: أين نحن العرب؟ هل استطعنا توليد فكرة جامعة تلمع في ذهن أبناء هذه الأمة غير فكرة التبعية؟ وإذا قال أحد إننا استطعنا، ولكن بقي الجوهر الديني أقوى وأكبر من أي فكرة، وتجد الجميع من أبناء الأمة العربية يهبون للدفاع عن روحانيات يتعلقون بها، وما عززته فيهم من مثلها العليا والدنيا، ولن تجد أمة اهتمت بهذه القضية كاهتمام أبناء الأمة العربية الإسلامية ونبي الإسلام وخلفائه وأبطال حياتهم، حتى إن استنهاضهم لأي أمر لا يتم إلا من خلال أولئك الماضين أو الرموز الحاضرة بشكل أقل وخطيب أو إمام، ورغم كل ما يظهر من وعي لدى الأجيال، فنجده قادراً على تحريك مجتمع بكلمات، حتى وإن كان أمياً فكرياً، إلا أن له حضوراً في الخطابة، يأخذ به المجتمع، ولا يقدر عالم أو مفكر أو سياسي على إقناع الكثرة رغم ما يقدمونه من معرفة وعلم وإبداع.
العرب في أقطارهم يحيون حالة اصطراع بين العقل والإيمان، بين العقل والنقل، بين مفهوم الدين وغاياته، والتديّن وطقوسه، صراع بين عقل الغرب المادي وعقل الشرق الروحي، والفرق بين الشرق والغرب أن إنسان الشرق متعطش للخلود منذ بحث "جلجامش" في ملحمته الشهيرة التي قامت من البحث عن ماء الحياة الذي يمتلك به سر الخلود والتكاثر اللا محدود، هذا الذي استمر حتى اللحظة في الشرق والجنوب، وإنسان الغرب الذي آمن بالمادة من أجل البناء وخلق المنتج والإبداع والثروة التي تبحث عن الرفاهية بكل أشكالها، فآمن بالحياة المادية التي تحولت إلى دين اعتنقته أجياله بكل قوة، واعتبر الآخرين في الشرق عبيداً له، أو بشكل آخر مسؤولاً عنهم شريطة أن يطيعوه.
وإنسان الشرق لم يأخذ حتى اللحظة بالمنهج العقلي، لأن وجدانه الديني أكبر إلى الآن من تحليل العقل، ويخاف على هذا الوجدان الذي يتمسك به بقوة، وأكثر من ذلك لا يوجد بين العقل والإيمان أي صراع، بل هناك صراع بين إيمان وإيمان، من دون إدراك أن الإيمان كلي، وهو مثل البيت الكبير المتعدد الغرف، كل واحد أخذ منه حيّزاً، وتمترس خلفه، وغفل عن الإيمان الجامع، وهذا ما يحصل حقيقة في الشرق وعالم الجنوب، باستثناء صفوة تدمج العقل بالإيمان، وندرة تحيا بالعقل وهي تخضع إلى حرب ضروس تشن ضدها، فإما أن تغادر إلى عالم الشمال والغرب، وإما أن تنزع عنها صفاتها وتتهم.
منذ قيامة العالم الجديد، أي مع بدايات القرن السابع عشر، نجد أن كلمة جديد أو حديث سيطرت على كامل عقول مفكري وفناني واقتصاديي وساسة الغرب، وكان جل همهم تغيير قيم ومفاهيم الماضي، ولم تعد الأخلاق التي كانت في الماضي ترضي حضورهم الفكري، وظهر جيل بل أجيال جديدة، لا يرضيها إلا كل جديد، وهذا يرينا رغبة وصورة الإنسان بأنها تسارعت، وأخذت تتمثل كل جديد، وهي رغبة مفيدة، إن عنت التطور العقلي وفهم احتياجاته مع الحفاظ على الهوية والانتماء، ومن ثم حجم المشاركة والإنتاج فيها، وإن لم تصل الأجيال الحديثة إلى ما تريد، فإن ذهابها للتشدّد أو للتغيير الواقع أو الاستثمار فيها من أجل التغيير، وهنا تكون مكامن الخطر التي إما أن تعيدهم إلى الماضي، أو تنسف في داخلهم الأحلام، ليتحولوا إلى أدوات خطرة.
صحيح أن الغرب مختلف كلياً عن الشرق، إلا أن أبناء هذا الكوكب الحي يعيشون عصراً واحداً، ويشعرون بالاختلاف في المواقف، رغم أن ظروفاً مشتركة تجعل منا ومنهم أبناء هذا العصر.
هل وصل العقل العربي إلى أبواب العصر العلمي؟ أقول أجل، وهل قاموا باكتشاف درجات الكون وحل ألغازه، أم إنهم سيقفون هنا؟ أم إن الغرب سيمنعهم بأساليبه الخبيثة من الوصول؟ لذلك إنني هنا أؤكد أن ولادات جديدة بدأت تحدث في عالمنا العربي، ويجب على القادة والساسة الإمساك بها، مادامت مدارك الأجيال اتسعت، وبدأت تفهم الجديد والحديث، وتفرق بين الماضي والحاضر.
إنه صراع عقول، بين عقول الأجيال، وعقول النخب ذاتها في أوطاننا، وبيننا وبين عالم الشمال، وأخصُّ منه الغربي مع الأمريكي، فهل ما يحدث يحدث؟.
د. نبيل طعمة