طغيان الأفكار
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ٦ يوليو ٢٠٢٢
يوضّح الصلات العميقة بين الرغبة والفعل، بين الثواب والعقاب، ما يدفعنا للقول: لا تحجم عما يعود على المجتمع بالخير، ولا تتوانَ عن محاربة التعصّب وعادات الجاهلية، ولتجتهد على فهم وامتلاك الجديد من العلوم، واسعَ لرقي العقل بتخلصه من الشوائب، تحرّر من قسوة العبادة التي تمنعك من تحقيق حرية العبادة لك وللآخر، فمن يسئ التصرف يسئ للفهم وللعلم، والذي سُلب الحبّ فقد مشاعره، وعميت بصائره، فذهب إلى الانعزال أو التشدد الأجوف، أي إلى قتل الأفكار بدلاً من مناقشتها أو حوارها وتعويم الأفضل منها، إذا لم يأخذ بها.
يميل الإنسان إلى تناسي الحقائق الماثلة في أن ما كان يصلح لزمان مضى لا يظل صالحاً لكل زمان، أو إلى الأبد، وتحت تأثير ذلك الميل نرى الإنسان متشبثاً بالطريق القديمة التي كانت ذات صلاحية في زمانها، والتحرر من تتابعها فيه يحمله آلاماً لا توصف، ويحتاج لأفدح التضحيات، لذلك أجد أن زمننا المعيش يعاني فقد البصيرة بشكل مثير للذعر، فما زلنا نصرّ على التسليم بكثير من القضايا الروحية رغم فقدانها لصلاحيتها أمام العلم، ومن دون غير عناء بحثي تقدر إلى أن تصل إلى عدم صوابيتها، وإذا كانت الأديان تمثل المواقف السيكيولوجية وأساليب محددة تمنح الإنسان القدرة على التكيف مع العلم ظاهراً وباطناً، فهي ترسم للإنسان نمطاً ثقافياً مجدداً، يحيا في إطاره، والمفترض أن يمنحه هذا الإطار الدخول والخروج والاندماج مع المحيط بشكل إيجابي لا سلبي، وهذا يشير إلى ضرورة تغيير الواجهة الخارجية، كي يقدر على الدخول في إمكانات الحاضر والمستقبل، لأن الذات تظلُّ على مستوى أعمق فاعلة وحية لزمن طويل، على هدي الذي سكنها من القديم بفعل قوانين بطء النفس التاريخية.
وصّف فرويد عالم التحليل النفسي الدين بأنه عصاب القهر العام، وأقدم عصاب قهري مستمر، وأشار إلى عصاب القهر الخاص بأنه دين مشوه، بعد أن أجرى دراسة على المتشابه بينهما، من خلال عصاب الأفعال القهرية، وبين الطقوس والشعائر الدينية، فإن تراكم الجرائم في ذاك الموغل من القدم أدى إلى ظهور الحضارة الدينية، التي قدمت مشاعر الحزن والفجيعة، وحجمت مشاعر نشوة الظفر والنصر عما كان سائداً، أو ولدت حضور التوبة والندم بعد إظهار التشدد في العقاب ورسم تدرجاته.
هل يمكننا اعتماد فكرة أن الإنسان منقاد بطبيعته لشهوات وأهواء لا تهتم إلا بمنفعته الخاصة، ويجند عقله في اللا شعور لخدمة أناه الفردية، مهما بلغ من شأن في اجتماعيته ورده للآخر، والسبب أن غريزة البقاء ترغم العقل على هذا، رغم وجود التطور النوعي الذي يدعوه إلى إبرام العقد الاجتماعي والانخراط فيه، لأن الإنسان لم يستطع التخلص من عقدة قابيل، الذي قتل أخاه لسببين، الأول خلافة الأب، والثاني رفضه لمبدأ اللين والتسليم والتنازل عن المادة والرغبات، وتمسكه بالنظام الفردي الإلهي المتفوق على كل شيء، وإيمانه بأن القوة والمادة تصنعان الأشياء، واعتبار أن الحضارة تشكل مجموع الإنجازات والإنشاءات التي تخدم هدفين؛ حماية الإنسان من الإنسان أولاً، ومن الطبيعة ثانياً، وتنظيم العلاقات والصلات فيما بينها، وهي عملية شاقة وطويلة الأمد، تنبع من الشعور بالذنب الذي يحس به الأقوياء نتاج قتلهم لمحبيهم ومخالفي آرائهم.
هل آمنا بالعقل وقدراته؟ وهل وصلنا إلى حقيقة منشأ الأديان؟ وهل قدر العقل بكل قواه العلمية على تفسيرها التفسير الصحيح؟ فالعقل البشري ممتلئ بالأفكار، ولم تقدر حتى اللحظة التي أخطُّ بها هذه المادة أي فكرة على الثبات، لأنه لا توجد فكرة مطلسمة مهما بلغت من قوة في تأثيرها، فلا بد أن يأتي من يفككها ومن توليد فكرة أخرى، فهذا الطغيان الهائل للأفكار على اعتباره أكثر من طبيعي، ومهماً جداً توافره، وإلا لكنا في حالة من الاستسلام، لذلك نرى أن أفكار الصراع البشري على بعضه بسبب المادة والروح مستمرة، لأن سواد البشرية ابتعد عن الحقائق والبحث للوصول إليها، واستثمر من العقل ما يفيده، فالعقل يشكل القدرة الإنسانية التي تستطيع أن توقف طغيان الأفكار على بعضها، وترتيب أهميتها، وبه فقط نستطيع أن نسهم في حل مشكلات وجودنا، أو على أقل تقدير تخفيف المعاناة المسكونة في الحياة الإنسانية، وهذا يعيدنا إلى البداية، حيث سعت البشرية لفهم منظومة العقل ومخرجاته، وحتى اللحظة يجري البحث.
د. نبيل طعمة