عيد البربارة
نجم الأسبوع
الخميس، ١٦ ديسمبر ٢٠٢١
لا يحتفل الأطفال في الكثير من قرى لبنان، وسوريا، وفلسطين، بمناسبة هالوين، بل يحتفظون بأقنعتهم وأزياءهم التنكرية لليلة البربارة.
عيد القديسة بربارة، من أقدم التقاليد في الكنائس المسيحية، ويصادف عند الطوائف الغربية مثل الموارنة والكاثوليك في 4 ديسمبر/ كانون الأول، في حين تحتفل به الطوائف الشرقية مثل الروم الأرثوذكس في 12 منه. كذلك يحتفل به الأقباط في 8 شهر كيهك، وهو الشهر الرابع في السنة القبطية، ويصادف في شهر ديسمبر.
ليلة البربارة، يتحلّق الأطفال ضمن مجموعات، ويجوبون طرقات القرى اللبنانية والسورية، متنقلين بين البيوت، لملء أكياسهم بالحلوى والمكسرات.
ويطرقون بابا بعد باب وهم يهتفون أهازيج شعبيّة خاصة بالمناسبة، ومنها "أرغيلة فوق أرغيلة صاحبة البيت زنغيلة" و"شيحة فوق شيحة صاحبة البيت منيحة"، و"هاشلة بربارة مع بنات الحارة".
وتتوارث العائلات هذه الأهازيج من جيل إلى جيل، وقد أدتها الفنانة الراحلة صباح في أغنية فلكلورية بعنوان "هاشلة بربارة"، اشتهرت في الستينيات، وما زالت تذاع في العيد كلّ عام.
وتعني كلمة "هاشلة"، هاربة، في اللهجات الشامية، وذلك نسبة إلى قصة هرب القديسة بربارة من والدها.
واستعداداً لاستقبال الزوّار الصغار، تسلق العائلات القمح، وتزيّنه بالزبيب واللوز والجوز والسكر والقرفة. كما تقدّم القطايف بالقشطة، إلى جانب حلوى المعكرون والعوّامات.
قبل انتشار الأزياء التنكرية الشائعة اليوم، كان أهل القرى يلوّنون وجوههم، ويرتدون ملابساً ممزقة وخرقاً بالية، للقيام بجولات ليلية وتبادل الحلوى، بعد أداء طقوس القداس إكراماً لبربارة.
هذا العام، وبسبب ظروف وباء كورونا، انتشرت على صفحات فيسبوك دعوات لإحياء المناسبة عبر الانترنت. ودعت بعض المجموعات لنشر صور الأطفال بالأزياء التنكرية، لاختيار الزيّ الفائز.
وهناك ملامح شبه كثيرة بين عيد البربارة وهالوين، كما أنّه يشبه عيد القرقيعان أو الكريكشون الذي يحتفل به في عدد من دول الخليج في منتصف شهر شعبان، بحسب التقويم الهجري.
ويقول بعض المختصين بدارسة الأساطير، إنّ هذه الطقوس الفلكلورية المتشابهة بين الأديان والبلدان والحضارات، ما هي إلا امتداد لاحتفالات وثنيّة بمواسم الحصاد وبدورة القمر، وبشعائر ارتداء الأقنعة للتماهي مع أرواح الأجداد والآلهة في الحضارات القديمة.
ولكن من هي القديسة بربارة التي منحت اسمها لهذه المناسبة؟ ولماذا تنال هذا القسط من التكريم؟.
لا يحتفل بعيد القديسة بربارة في الدول العربية فقط، بل في كلّ دول العالم، بين الشرق والغرب، لأنّها تعدّ من أوائل الشهداء المسيحيين في عصور انتشار الديانة المسيحية المبكرة.
ويسود خلاف حول تاريخية بربارة، إذ لا توجد مراجع دقيقة توثّق حياتها، ويميل البعض للاعتقاد أنّ حكايتها، في جزء من تفاصيلها، تخلط الواقع بالأسطورة.
ويعتقد أنّ بربارة عاشت في القرن الثالث للميلاد، لكنّ الاحتفال بذكرها لم يبدأ إلا في القرن السابع. ويسود خلاف حول مكان ولادتها، إذ تفيد بعض المرويات الشعبيّة أنّها ولدت في مدينة بعلبك الواقعة في لبنان اليوم، في حين يرى آخرون أنّها ولدت في مدينة نيقوميديا الواقعة في تركيا حالياً.
ويعتقد أهالي قرية عامود الفلسطينية في الضفة الغربية، إنّ القديسة بربارة مدفونة في دير من أديرة القرية، حيث يضيئون لها الشموع كلّ عام.
رغم الخلاف على دقّة مكان وتاريخ الولادة، تجمع كافة المرويات على خطوط عريضة موحّدة لقصّة بربارة، باتت حكاية تنقل بالتواتر، وترويها الجدّات لأحفادهنّ في بلاد الشام.
وتقول القصّة، إنّ بربارة كانت ابنة نبيل روماني، عرف بثرائه، وبتعصّبه لوثنيته. ولأنها كانت على قدر عالٍ من الجمال، خاف والدها عليها من العيون، فبنى لها برجاً عالياً، حبسها فيه معظم طفولتها وشبابها، وكان الخدم والمعلّمون يزورونا لتزويدها بالطعام وتدريسها.
من برجها المسوّر العالي، المحاط بالحرس، اكتسبت بربارة عادة تأمّل الطبيعة، ودورة الفصول، وحركة الشمس والقمر، فخلصت إلى قناعة ذاتية بأنّ الخالق لا يمكن أن يكون من الأصنام التي يعبدها أهلها.
ولأنّ أحد مدرّسيها كان مسيحياً، عرفها على الانجيل، وقررت أن تنال المعمودية بالسرّ، وتكريس حياتها للمسيح، فصارت ترفض عروض الزواج.
رفض بربارة الزواج، أحرج والدها أمام نبلاء قومه، فحاول أن يضغط عليها، وبدأ يشكك بتأثير المعتقدات المسيحية عليها. وعندما صارحته بإيمانها، حاول قتلها، فهربت منه وصارت تركض في الحقول والبراري.
وللاختفاء عن عيون والدها وحراسه، صارت بربارة تلف نفسها بالملابس الممزقة، وتلوّن وجهها، واحتمت بين سنابل القمح الناضجة.
لكنّ أحد الرعاة تعرّف إليها، بسبب يديها الجميلتين، وعينيها الثاقبتين، كما تقول الأغنية الفلكلورية: "هاشلة بربارة مع بنات الحارة، عرفتها من عينيها ومن لمسة ايديها، ومن هاك الأسوارة".
وتقول نسخ أخرى من الحكاية، أن بربارة حين هربت من والدها، انشقت صخرة كبيرة، فاختبأت داخلها.
في النهاية، يلقي والدها القبض عليها، ويجرّدها من ملابسها، يجلدها أمام الناس. تستنجد بربارة بالمسيح فيلفها بالنور، كي لا يرى الناس جسدها، بحسب المعتقد المسيحي.
وبعد جولات تعذيب عدّة، لم تتخلّ بربارة عن ايمانها، بل كانت جراحها تشفى في كلّ مرّة. عندها لجأ والدها إلى الحاكم الذي أمر بقطع رأسها. طلب والدها تنفيذ الحكم بنفسه، واستعدّ لقطع رأس ابنته. عندها هبّت لنجدتها شابة أخرى، تدعى يوليانة، تأثرت بها، فأعلنت ايمانها بالمسيح. فقتلت الاثنتان معاً، وتعتبران شهيدتين من شهداء الكنيسة الأولى.
بحسب موقع "أليتيا" المختصّ بالشؤون المسيحية، تعدّ قصة بربارة، سجينة البرج العالي، من النسخ الأولى لقصّة رابونزل الشهيرة التي كتبها مؤلفا الأقاصيص الشعبية الألمانيان، الأخوان غريم.
فمثل بربارة، تسجن رابونزل في برج، لا يمكن لأحد دخوله، إلا إن تسلّق جديلتها الشقراء الطويلة. وينطبق ذلك على قصص فولكلورية أخرى، تسجن فيها أميرات في أبراج عالية، لحمايتهنّ، وتحرسهنّ ساحرة، أو تنين أسطوري.
أمّا علاقة بربارة بالقمح، فمرتبطة بأساطير الحصاد وطقوس العبادة التي أحاطت بها منذ الأزمنة القديمة. وعلى اختلاف الشعوب والأساطير، تجد المصادر التاريخية أقاصيص عن إله القمح الذي يعذّب ويقتل، ليعود وينبت في موسم جديد.
بالنسبة للمسيحيين في بلاد الشام، يشكّل عيد البربارة إيذاناً ببدء موسم الميلاد، فمن العادات البدء بتزيين شجرة العيد بعد انقضاء ليلة البربارة، إلى جانب زرع بذور العدس والحمص وحبوب أخرى في أوانٍ صغيرة، لكي تنمو منها براعم خضراء.
في المعتقد المسيحي، تعدّ بربارة شفيعة المصابين بالأمراض الوبائية، و"يستجير بها المعرّضون لخطر الصواعق، لأنّ أباها عوقب فقتل بصاعقة بعد ذبحها. كذلك يستعين بها ذوو المهن الخطرة، كفرق المدفعية في الجيش وصنّاع الأسلحة وعمال المناجم والبناؤون والنجارون"، بحسب موقع "بطريركية انطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس".
وبحسب موقع "أليتيا"، فإنّ عمّال المنجم التشيليين الذين حوصروا تحت الأنقاض لأكثر من شهرين عام 2010، أعلنوا بعد انتهاء عمليات انقاذهم، أنهم طلبوا شفاعة القديسة بربارة.