فائض القوة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٢ سبتمبر ٢٠٢٣
يستدعي دائماً التوسع، هذا العنوان ليس محض خيال، إنما هو مرتكز قام عليه الفكر البشري من لحظة ظهوره على وجه الأرض، وإذا عدنا بالتاريخ إلى الوراء وناقشنا قضية الاستحواذ التي قام بها قابيل وقتل أخيه من خلالها، وفهمنا مقاصده، لعرفنا وأدركنا أن العالم لم يعد بحاجة لخطط موت جديدة، ولا إلى تطوير التقنيات العسكرية، بل يحتاج إلى قرار وعمل، يواجه فيه قدرة الدول العظمى التي تنهب كل ما لدى البشرية من ثروات وكنوز وخامات وعقول، وأن يوقفوا الصراع فيما بينهم، ويتجهوا لبناء الإنسان على الشكل الأمثل والمراد أن يكون عليه.
فائض القوى شكل إرباكاً نوعياً للحركة الكونية من خلال ظهور الاضطرابات المناخية "الاحتباس الحراري" والاضطراب في الغلاف الجوي "الأوزون" وخللاً في الاقتصاد العالمي أدى إلى نقص في الأمن الغذائي العالمي وفرط العقد الاجتماعي بظهور أفكار الليبرالية الحديثة "ضرب القيم والأخلاق والدعوة إلى المثلية" وغدا كل ذلك مشاعاً بين أيادي الصغار الذين إن تمكنوا من القوة أحدثوا اضطراباً مضافاً بدءاً من الفرد وصولاً للمجتمع ضمن المجتمع وانتهاءً بالدولة، لذلك تحول العالم برمته إلى القلق والأرق، وكأن يوم القيامة بات قريباً، وقريباً جداً، بعد أن عاشت البشرية آخر حرب بيولوجية، وكانت عنيفة جداً "كورونا وتحوراتها" هذه التي أوقفت البشرية دون حراك، ونالت من أبنائها دون استثناء، ها هي اليوم تقف على أبواب حرب عالمية ثالثة، والكل يتحضر لها في جنوب شرق آسيا (الصين، الكوريتان، اليابان، أستراليا) طبعاً بإدارة أمريكية، وفي أوروبا (روسيا وأكرانيا) إذ من المؤكد أن الأمريكي أهم فاعل فيها، مع القوى الغربية في هذه المنطقة، إضافة لأفريقيا واستفاقتها الهامة في وجه الفرنسي والأمريكي، مع وجود الصيني والروسي في الشرق الأوسط، أما سورية فهي المحور بمحيطها الإسرائيلي والتركي والإيراني، طبعاً بوجود الروسي والأمريكي ومنظمة التحالف الغربي العربي، والكل يتبجح بقدرته على السيطرة، والسبب فائض القوة لديه.
إذاً فائض القوة يبحث دائماً عن الأزمات، أو خلق الأزمات، والسبب تنامي القوى وفائضها الذي امتلأت مخازنه بها، مما يشكل دائماً الخطر الأكبر من البشرية على البشرية، وهذا يثبت أن فائض القوة طبع بشري يسكن الإنسان من لحظة تفكيره بالبناء، يتزوج، يشتري بناء، يبحث عن سيارة، يشتري مزرعة ومحلاً، يدخر مالاً، يتوسع فيحتاج للقوة لحماية ما يملك، ومن ثم يزداد توسعاً، لا يتوقف تفكيره عن التملك والاستزاده، كلما حدث معه فائض مالي دعم قواه، ثم يتابع الانتشار أكثر، حالة فكرية تعم جميع البشر دون استثناء، بدأت عند التحول المفصلي من إنسان المعرفة والعلم إلى (بشر) والتي دائماً أؤكد على تعريفها بأنها تعني بدء شراهة وبدء شر وبدء شهوة لكل شيء، للجنس والمال والقوة، وأهمها لغة أريد، وأريد كل شيء طالما أن لدي المال والقوة، هل أدركنا هذا المفصل الذي ولد مع قابيل وإرادته خلافة الله والأب والحصول على كل شيء، فقتل أخيه الإنسان كي ينفرد في الملك والسيطرة على الأرض والعرض والسماء والماء.
العالم اليوم أوجد وقتاً ضائعاً ليلعب فيه الجميع على بعضهم، حوارات دون آفاق، أنواء خريفية وشتائية تستثمر فيها القسوة والضغوط من أجل إحداث موجهات كبرى، لأن الصغرى والمتوسطة انتهت أدوارها، ومواثيق الشرف غدت حبراً على ورق، لا أهداف أممية، فقط عقلية قابيل هي السائدة، وهي الساعية للسيطرة دون توقف، مما يظهر أن المشهد الآن شديد القتامة، وأن الإنذارات المتلاحقة التي لم تتوقف لا تجد لها آذاناً صاغية، وعلى العكس تماماً نرى تتابعاً في الضغوط الممارسة بين ممتلكي فائض القوى على بعضهم أولاً، ومن ثم على الدول الدائرة في فلكهم من هنا أو هناك، إنذارات للكل ترخي بالعتمة الشاملة نتاج الاهتراءات الاجتماعية والاقتصادية، وحدوث الانفراط السياسي داخل الدول وبين الدول، وظهور الاحتدام المشكل للخطورة الحالية، وبشكل أكبر من كل ما سبق.
من سيعالج الواقع العالمي طالما أن الكل منخرط في البحث عن تركيبات هجينة نتاج الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية، التي تنشئ فراغات وهوات، أولاً نتاج قِدم فائض القوى وبدايات تآكلها، وهذا يستوجب إنهاءها من خلال زجها في معارك يكون ضحيتها الأرض والإنسان، وأيضاً نشوء قوى جديدة إلى جانب القوى العظمى يجهل كل منها ما يمتلكه الآخر، مما يشكل خطراً جديداً وكبيراً على العالم بأسره، وبأنه موعود باستمرار الضغط عليه، وبكل أنواع القوى، والذي سيدفع الثمن الشعوب التائهة بين هذه القوى.
فائض القوى يُفقد العقلانية حضورها، بحكم سيطرته على الفرد ومن ثم على مجتمعه؛ أي يأخذ، وكما أسلفت، بالتوسع رويداً رويداً، فلا يعود للأخلاق والقيم وجود، إنما تغدو لبوساً براقاً، وهنا أقول أنه يجب مراقبته ومتابعته، لأنه إذا انفلت لا يمكن إيقافه إلا بفائض قوة مقابلة، والذي يحدث اليوم، وضمن أي مجتمع أو دولة، ما هو إلا تجسيد حي للفكرة التي نلتئم حولها، فكم هو الإنسان قوي وكم هو ضعيف، وإنما يقوى على حساب ضعف الآخرين، والعكس أيضاً يحصل، معادلة من ينحني يخضع إلى أن يمتلك القوة.
د. نبيل طعمة