قصص قصيرة
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ٥ أكتوبر ٢٠٢٢
قصد شخص يتمتع بحضور فاحش الثراء رساماً، وطلب منه أن يرسمه، وأن يشكل من خلاله لوحة نادرة، فعلاً قام الفنان الرسام بإنجاز اللوحة، وما إن رآها صاحبها حتى أنكرها، وقال هذه صورة رديئة جداً، إنها لا تشبهني ألبتة، وأرفض قبولها، ولن أدفع ليرة واحدة ثمناً لها، واستدار صاحبها على عقبه، وتأهب للمغادرة من مُحترف الرسام الذي تألم كثيراً على جهده الذي قضى فيه أسابيع، ويأتي صاحبها ليذهب بجهوده هباءً، وقال لحظة يا سيدي الثري، هل لك أن تخطَّ لي نصاً ترفض فيه قبول اللوحة خاصتك التي تمثل صورتك، بأنها لا تشبهك.
اغتبط الثري للطريقة السلسة التي تفضُّ النزاع بينهما، ووافق طالباً ورقة وقلماً، كتب عليها أرفض قبول اللوحة لأنها لا تشبهني، ووقع على ذلك.
مرت الأيام والأسابيع، إلى أن أقيم معرض فني مهم.. دُعي إليه الثري بإلحاح لافتتاحه ومشاهدة إنجازات الفنانين عبر اللوحات المعروضة، وما إن حضر وتجوّل فيه حتى شاهد اللوحة خاصته، فجنَّ جنونه لما كتب في زاويتها كعنوان لها، وطلب من مدير المعرض إزالتها فوراً، وأنه سيتصرف إن لم يقم المدير بذلك، والذي فاجأه أن المدير قال له: يا سيدي لا تمتلك الحق في إقامة الدعوى، فأنا لدي ورقة بخطك، وتحمل توقيعك، تثبت بأن الصورة لا تشبهك.
لم يجد الثري مخرجاً عند ذلك إلا أن يشتري اللوحة، فسأل عن ثمنها وكان بعشرات الملايين، ووجد نفسه مضطراً مرة ثانية، حيث لا جدال، وكان الاتفاق الأولي على آلاف بسيطة لا تتجاوز أصابع اليدين من الليرات وسبب شرائها واضطراره أن عنوان الصورة كان كُتب في زاويتها «اللص».
كان رئيس إحدى الدول التاريخية محبوباً جداً، وعصفت ببلاده المحن والأزمات التي عالجها بحكمته وحنكته العمليتين، وكان محباً للعلوم والأدب والفنون الجميلة، ما أدى لأن يلتف حوله كثير من المبدعين، وسرعان ما استحكمت المودة والألفة بينه وبين فنان رسام، ورفعت من بينهما الكلفة لدرجة كبيرة، وغاب ذات مرة الرسام، وتأخر عن الحضور، ليباغته الرئيس في مشغله، وكان الجو حاراً جداً، فخاطبه: لو كنت مكانك لتركت الرسم وانصرفت للراحة، فأجابه الرسام مازحاً: حقاً؟ وهل تستطيع يا سيدي مغادرة مسؤولياتك ومهامك إذا اشتدت عليك الظروف، وتسارعت الأحداث، واشتدت الخطوب؟ المهم أنهما تسامرا وطلب الرئيس منه أن يصمم رمزاً جديداً لدولته، فرسم له حماراً فوق ظهره بردعة، وبين قدميه أخرى، أخفض رأسه إليها يتأملها، وكأن بالحمار يرغب في التي بين قدميه، بدلاً من تلك التي على ظهره، وقد وضع فوق كل من البردعتين وسام الدولة، فلما استفسر الرئيس عن الأمر قال له الرسام: هذا هو حال رعيتك، لا يعجبهم العجب، وإن أجبتهم عن كل طلب، ووضعتهم على الكراسي، وبوأتهم مصافّ الرتب.
تقدم متشرد من رجل حسن الهندام يسأله حسنة لوجه الله تعالى، فقال له الرجل: لماذا وصلت إلى هذه الحال وأنت على قدرة جسدية، ولك لغة تخاطب بها الناس، فأنا لن أعطيك لأنك على ما يبدو تتعاطى المسكرات، فأجابه السائل: أقسم لك يا سيدي إنني لم أتذوقها في حياتي، إذاً تراهن بما تكسب؟ أيضاً لا أراهن، ولم أقامر في حياتي، إذاً أنت غارق في حبّ الغواني، ليعود السائل ويقسم له إنه لا يتعاطى بهذا أبداً، تفرَّس الرجل في هذا المتشرد لحظة، ثم قال له سأعطيك ما يرضيك شريطة أن تأتي معي إلى منزلي، لتراك زوجتي فتعرف مصير الرجل الذي لا يحب الحياة وما فيها من جمال ومن مغريات تدعوه لخوض ما فيها، وتحمل نتائج تبعاتها، وتضعه على مقياس نجاحاته.
كل البشر بلا استثناء يعتقدون أن الثراء يجعلهم سعداء، وهذه من حيث الصورة تبدو حقيقية، وجميعهم يسعون للوصول إلى ذلك وأكثر، يحاولون، يجربون، يسقطون على سبله مستسلمين راضين بقدرهم، أو يتخذون القدر حجة تجسد لهم ما يسمى القناعة، ومنهم من يتابع بإصرار، يصل بعضهم ليكتشف أن حمايته لما وصل إليه مكلفة ومؤلمة ومقلقة، لأنها تأخذ الكثير من وقته وفكره في الإضافة والحماية، وكثيرهم يلتجئ إلى السلطة بقصد حمايتها له أو يدور حولها، وينسى مجتمعه، بل ينسى واجباته تجاه نفسه والآخرين، منشئاً تراكماً من الحسد والعداوة والانحصار والانفصال، فينطبق عليهم المثل: «كثيرون حول السلطة، قليلون مع الناس والوطن».
– المادة كتبتها من القصص العالمية بتصرف.
د. نبيل طعمة