للأم كل الأيام
افتتاحية الأزمنة
الاثنين، ٢٠ مارس ٢٠٢٣
جمعت في يوم استحقته بجدارة، لكونها كنز الأجيال الحاملة لرسائل السلام، ومصدراً مهماً لدفئها، وأساساً متيناً لبناء الأحلام المؤمنة بفرص الحياة. إنها منشئة للحيوات المتسامحة، ومرسخة للقيم والمبادئ والأخلاق، وأول سجل للإبداع الكوني الذي أنجزها، فكان منها الاستمرار.
في داخلها وطن تشكلنا منه، سكناه وسكننا، لذلك يجب أن نكون معها، ونمدها بما تحتاج، لتكون الأمل، ومعه لها من التمييز ما يشكل رافعة لأبنائها، وإذا كانت بحدِّ ذاتها إنجازاً فكيف بنا لا نحمي حضورها، كي يستمر تدفق الإنجاز والإبداع، لأنها تمتلك فضيلتي التضحية والوفاء، وبها يبنى الوطن، وتحيا الأمة، بل الأمم.
أكتب للأم في يومها، بل لجميع الأمهات المتعبات والصابرات، لمرسلات فلذات أكبادهن للدفاع والإبحار في العلم والعمل، للمتحمّلات غياب أحبتهن، للمتشوقات لسماع أخبار السلامة عنهن، للمستقبلات لرفات أبنائهن العائدة من جبهات قتال الأعداء بسخاء الدموع الصامتة، أكتب للمزغردات في الأفراح، فلهن باقات الحبّ، لأنهن سيدات العالم ومشتركات في بناء الأمة والأمم، حتى إن الكلمة الأولى التي تعلمناها كانت ماما، وكل كلمات الأم في لغات العالم أجمع تبدأ بحرف الميم في الإنكليزية ماذر Mother، في الفرنسية مير Mère، في الإسبانية والإيطالية مادره Madre، في الروسية ماتث Matb، في الصينية موتشين母亲.
مثلت الأم السورية أنموذجاً تفردت به من خلال العطاء اللا محدود، وعلى الصعد كافة، إضافة لكونها مصدراً للطاقة الإيجابية في أسرتها، وإلهاماً أكثر من مهم لسعادتها، ناهيكم عن دورها الأساس في عملية الترابط الاجتماعي والنمو العقلي والصحي والعاطفي لأبنائها لبنائهم إنسانياً، وتوجيههم لقضايا الهوية والوطن، وليس أقسى على الأم من أن تشهد ابناً مريضاً لها، لتكون مستعدة للتضحية بذاتها ليشفى، ولا أصعب عليها من فقده، وأمنيتها بأن تكون بدلاً منه، لذلك كرمت الأم في سورية بمرسوم استثنائي أصدره الرئيس حافظ الأسد رحمه الله برقم 104 لعام 1988، باعتبار يوم الحادي والعشرين من آذار عيد الأم يوم عطلة رسمية بالجمهورية العربية السورية، وبذلك كانت سورية الدولة العربية الوحيدة التي تعطل بعيد الأم في حينها.
للأمهات السوريات بشكل خاص ولجميعهن أينما وجدن على ظهر هذه البسيطة الحيّة، أنتن الحياة بما تعنيها، ولكم الحب في أبهى صوره، لأنه ينساب حنواً ودفاعاً عن مجتمعاتكن المتناهية في الصغر "الأسرة"، وصولاً إلى الكبيرة المشكِّلة للأمة، ها هي حواء تمنح ليليث سمة الأم، لكونها والدتها التي كانت في الأسطورة تجسّد بداية الخليقة، فارتبط حضورها ببناء البشرية منجزة الحضارات وتقدّم الأمم، وسعت بعدها كل أم إلى أن ينعم أبناؤها بالحياة الآمنة والمطمئنة، لتكون عبر كامل العصور الإنسانية رمزاً للوفاء والحب والسلام، سار ذلك عبر كامل الحقب والأزمان وصولاً لبداية القرن التاسع عشر، حيث ظهرت الناشطة المدنية "جوليا وارد" ودعت للاحتفال بيوم للأم، الذي أطلقت عليه "عيد الأم من أجل السلام" وكان ذلك من تكريم الأمهات اللاتي فقدن فلذات أكبادهن إبان الحرب الأهلية الأمريكية، ولاقت دعوتها حينها رفضاً كبيراً، إلا أنها أصرت على استمرارها في النضال من أجل تكريم الأم، حيث دعمتها الناشطة الحقوقية والمجتمعية "أنا جارفيس" وتم إقرار يوم الحادي والعشرين من آذار في كل عام عيداً للأم تعبيراً وتقديراً واحتراماً لدورها في بناء المجتمعات وتطورها.
يوم الأم يجسد كل أيام السنة، أدعو فيه إلى تحريرها من الأعراف الاجتماعية السلبية التي تقيدها، لأنها أهم أداة للتحرر، وأقصد إعطاءها حقوقها المستلبة من النظام الذكوري العالمي وقيوده الدينية التي تعتبرها مقدسة، ويكون ذلك بالعمل على تطوير القوانين المدنية التي يجب أن تمنحها مزيداً من الحقوق في العمل والمساواة والحماية.
تستحق الأم السورية أرفع الأوسمة وأسمى الدرجات، لما قدمته بشكل خاص طوال وقوع الحرب الإرهابية الظالمة عليها، هذه التي اغتالت عبر أيادي الغدر فلذات أكبادها، وحاصرتها مع أبنائها في لقمة عيشها وتنظيم رعايتها، فكانت الإرادة اغتيالها، لأنها ولادة الحياة وحامية كرامتها، الأم السورية علامة فارقة في تاريخنا السوري الذي تسطر على صفحاته في كل يوم إنجازاً عظيماً من خلال تحملها للمسؤوليات الجسام في بناء حماة الوطن وبناء الدولة وإدارة شؤونها والدفاع عنها دفاعاً عن الوطن.
كل الحب والتقدير للأم الخلاقة الفاعلة والعاملة، للوزيرة والسفيرة والمديرة والمعلمة ولربة المنزل، وواجب علينا أن نفرحها وأن نمنحها بعضاً مما منحته لنا في وجودها أو في غيابها، فيكفيها فخراً أنها أعطتنا فرصة للحياة، إنه يومها، يوم الأم السورية الوطن والإنسان، كل الشكر للأم السورية ولسلالاتها الخلاقة التي بدأت كي لا تنتهي، ولكل أمهات العالم وأينما وجدت، لأنها تمثل رمز الحياة والإنسانية المشرقة.
د. نبيل طعمة