لوكا غوادانينو: فيلم رومانسي تُؤكل فيه الأجساد
سينما
الأربعاء، ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٢
«عظام وكل شيء» كُتب بذكاء وأُنجز ببراعة مبهرة، وقصة يُراق فيها الكثير من الدماء، عن تفتح وعي شابة لمتعة الجسد واللحم، بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معنى. قصة الفيلم تبدأ في اللحظة التي يبدأ فيها الحب، عندما يحلّ الضياع ولا يعرف المرء ما العمل. فجأة يكتشف كائناً جديداً مشابهاً في الهجران فقط، في الاختفاء الطوعي هرباً من الماضي وبحثاً عنه. هو فيلم عن شخصيات تبحث عن مكانها، عن الذين يتوقون إلى الانتماء، هذه الرغبة التي تكاد تكون شديدة الخطورة مثل الجوع... أكثر من مأساة رومانسية وأقل من فيلم رعب، «عظام وكل شيء» هو نوع من أفلام الطريق الوجودية، تم تصويرها برقة، حيث ذهب المخرج الإيطالي لوكا غوادانينو خطوة إلى الأمام ليمزج أنواعاً سينمائية اعتاد أن يقدمها. قدم الإيطالي شريط رعب رومانسياً على الطريق، تؤكل فيه أجساد البشر بينما يجتمع اثنان من أكلة لحوم البشر معاً في سرهما المشترك، ويقعان في الحب ويقودان السيارة كمشرّدين مصابين بصدمات نفسية عبر الأماكن العميقة للولايات المتحدة التي يغزوها «جيل Me» في عهد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي.
ولدت مارين (تايلور راسل) مع شهية لأكل لحوم البشر، هي الآن على وشك أن تبلغ 18 عاماً. بفضل الإجراءات الشديدة التي فرضها والدها (أنديه هولاند) عليها، أصبحت مضطرة لاحتواء شهيتها. مع بلوغها سن الرشد، يشعر الأب بالإرهاق ويغادرها، يتركها وشأنها، في ما يبدو أنه فرصته الوحيدة للنجاة منها. ترك لها مالاً، وشهادة ميلادها وشريط كاسيت يخبرها فيه بأشياء عن ماضيها وماضي والدها لا تتذكرها. استقلّت الحافلة لعبور البلاد بحثاً عن والدتها، لكن ما وجدته في الواقع أنها ليست آكلة لحوم البشر الوحيدة في البلاد. ستلتقي سولي (مارك ريلانس) العجوز المخضرم الذي يشم رائحة آكلي لحوم البشر من مسافة بعيدة، وفي وقت لاحق سوف تلتقي بلي (تيموثي شالاماي) وتبدأ العلاقة بينهما، كما رحلتهما على الطرقات هرباً وبحثاً عن دوافعهما القاتلة التي لا يمكن السيطرة عليها. سبب وجود علاقة بين الاثنين، ليس فقط مذاقهما للجسد البشري، ولكن لأنه في خضم شبابهما وتجاربهما المتنامية، يتوق كلاهما إلى القبول. «عظام وكل شيء» فيلم يتطور إلى شيء يتجاوز موضوع أكل لحوم البشر. في الواقع، أكلة لحوم البشر ما هي إلا ذريعة لاستكشاف مواقف بشرية أكثر قوة وتعقيداً. وبفضل هذا الحب الأول، يرفع الفيلم نغماته إلى لحظات شاعرية، تسلسلات تخلق فيها الصور والإيماءات والموسيقى جواً سردياً مثيراً للذكريات. ويستغل المخرج هذه اللحظات لمواجهة شخصياته ذاتها في منتصف الطريق والأماكن المفتوحة.
بطريقة ما، «عظام وكل شيء» هو عصارة أشهر فيلمَين لغوادانينو، حيث يلتقي الشعور الصيفي الخفيف للحب في «نادني باسمك» (2017) بالرعب المجازي لفيلم «سوسبيريا» (2018). نحن أمام عمل لصانع أفلام إيطالي قرر أن يستكشف من منظور السينما الأميركية، الوجه الأكثر هشاشة للغرب الأوسط من الولايات المتحدة. وفي تأريخ لرحلة الشابين عبر أميركا، يستحضر غوادانينو النغمة الرائعة لفيلم تيرانس ماليك Bad Lands (1973) الذي تبنّى فكرة التمرد. غوادانينو أظهر أنّ لديه طرقاً عدة ممكنة لتقديم صورة حقيقية لأميركا بالكاد ممثلة في السينما المعاصرة (المخرجة كيلي ريتشاردت استثناء)، وفي الوقت نفسه، قدم قصة رمزية عن البلوغ كمنطقة من الغموض والارتباك، كعمر تتجول فيه الهرمونات داخل المتحدثين باسم الذات (Me Generation)، ما يكسر النظام الاجتماعي، بالإضافة إلى كون لحم الإنسان استعارةً معقّمة لأعباء الأسرة. رغم أن الفيلم لا يدخل في عمق إلى أزمة الأيدز أو إلى الـ «ريغونوميكس» ولا إلى الحرب على المخدرات في الثمانينيات، لكنه يأتي بصورة حقيقية لكل علامات الانحلال التي ينتجها المجتمع الرأسمالي باستمرار، وترك مواقفه بين القبلات والعضات، والحنان والوحشية. التشابه الوثيق الذي يخلقه المخرج بين الفيلم وأكل لحوم البشر والواقع الأميركي يتضاعف فقط في ما هو موجود أمامنا، بدلاً من أن يكون شيئاً رمزياً طوال الفيلم، لأنه في بعض الأحيان يمكننا رؤية الشخصيات تتناول الطعام في المطعم قبل أن تفقد سيطرتها على أكل لحوم البشر. غوادانينو يعطي للشباب صورة السلام في منزلهم، حيث يطهون معاً بينما يغني ترينت ريزنور وأتيكوس روس «للحظة شعرت وكأنك في المنزل». إذن ما مدى ملاءمة صورة أكل البشر لظاهرة أزمة أميركا؟ في الواقع، لم يخلط غوادانينو ببساطة بين التصرفات الطبيعية لشخصياته والمعاناة الناتجة عن المجتمع. أكل لحوم البشر هنا ليس مجرد مقارنة بلاغية تنير شيئاً ما، بل صوة نقدية، شيء يتسامى على القماش للحظة وجيزة أمامنا ومندمج في المجتمع. آكلو لحوم البشر في الفيلم هم طفيليات حزينة تتغذى على الجسد الاجتماعي، وبالتالي تنغمس دوماً في الشعور بالوحدة التي يخشونها في الوقت نفسه. «عظام وكل شيء» هو نقطة بلوغ سن الرشد الخادع الذي يشق طريقه إلى الظروف الاجتماعية للولايات المتحدة عن طريق صور الرعب القاسية.
غوادانينو مهتم بدخول تلك الأماكن حيث تجد نهاية المراهقة جداراً للقفز فوقه، واعتبر أنّ أكل لحوم البشر هو نقطة التلاشي، قصة لقاء ورحلة بين فتاة يجب أن تهرب، وشاب يعيش هارباً. كما أنه لا يسأل أو يجيب على البعد الأخلاقي لهذه الشخصيات. يعرف غوادانينو كيف يمنح الوقت والمساحة فقط، ما يكفي من الدقة الملموسة حتى لا يسمح لفيلمه بالتحول إلى التعسف المطلق أو حبس نفسه في إطار الخطاب. في تلك المبارزة بين الخير والشر، بين الحب والناب، نظرة شعرية ممزقة ومظلمة تماماً عن الوجود، واحتفال شره بالحب كحصن أخير ضد شرور العالم. وكما هي الحال في جميع أفلام غوادانينو، فإن رحلته المليئة بالدم غير الغرب الأوسط الأميركي تستكشف ما إذا كان هناك مكان للغرباء في هذا العالم. «عظام وكل شيء» ليس من السهل هضمه، ليس لأنه يتعامل مع موضوعات حساسة عن الفطرة وقبول الذات والإقصاء الاجتماعي والحب غير المشروط وصدمات الأجيال والموروثات التي نتلقاها من آبائنا. تدور الرومانسية في الفيلم في دوائر وتولد مشاهد خفيفة، وتقترب نحو ذروة حاسمة ومؤلمة. وفي زوايا هذا الفيلم، الصورة السوداء العميقة لأميركا المنكوبة. والاشمئزاز الناتج عن مشاهد أكل لحوم البشر هو في الأساس مجرد انعكاس لما أثاره البؤس والعنف الكامن داخل جسد واحد، هو المجتمع.