مستقبل يأبى الحضور
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٨ يوليو ٢٠٢٣
العقول البشرية تتحدث دائماً عن الأزمنة الثلاثة ـ ماضٍ وحاضر ومستقبل ـ والمفترض أن هذه الأزمنة لا تأتي إلا بشكل متكامل وأن تستفيد كثيراً من خبراتها كي تقدم على إظهار الغاية الحقيقية لأسباب وجود هذه العقول التي يجب أن تسعى لبناء عالم إيجابي تسوده تعاليم الخَلق والإبداع والعمل المنتج والسماحة، ولكن ما نراه من عنف كامن يتجول بين الكراهية والانتقام والسعي لتحقيق الغلبة بأي شكل وبأي ثمن، يرينا أن الماضي لا يريد أن يغادر عقولنا، ويصر على البقاء فيها بكل ما فيه من تراكمات الغزو والسبي والغنائم وإفساد ما تبقى من الجودة الإنسانية، وندور نحن تائهين معتبرين أننا لا ندري ـ أو نتجاهل ما يجري ـ فتارة نُوجد الأعذار، وكثيراً ما نسعى لتبرير العنف بدل الاتجاه إلى تحليل أسبابه، وما إن يحدث الهدوء حتى نجده يضرب من جديد دون تسامح وبقسوة عاتية، أتوقف لبرهة لأسأل: هل العنف طبعُ الدولة أم أنه طبع العامة؛ أي أبناء الدولة؟ وما هو الدافع للعنف؟ العلم أم التدين أم مخاوف طبقة الفقراء الممتلئين بالعبثية والحمية اللاواعية، وشعورهم أن لا مستقبل لهم، لذلك تجد أن الماضي لا يغادرهم فهو كالهشيم ينتظر الشرارة، وكلما ازداد الفقر ازداد الهشيم وجف أكثر، وأخذ ينتظر من يلقي إليه بشرارة فقط، دون أن يحتاج للنفخ عليه، ها أنا ذا أتابع منذ عقود حال العرب المسلمين على أرضهم العربية بشكل خاص، وأينما تواجدوا، وفي أراضي الغير، وأقاطع ما يحملون من أفكار، ووصلت إلى نقطة يلتقي فيها الجميع، الذين يقولون أن الغرب وأمريكا لا يريدان تقدمهم وأن ضغطهم كالطوفان الذي لا يمكن إيقافه، هل يعقل هذا؟ أقول أجل، لأنه نجح في زرع ماض في قلب العرب، استحضر الصهيوني الإسرائيلي من أصقاع الأرض وأسكنه في فلسطين قلب العرب، واستنهض بذلك كل الماضي للعرب والمسلمين وحولهم إلى هشيم، وكما ذكرت بينما الإسرائيلي بدأ ينضج ويقوى ويتعلم ويبني في أجياله الآمال ويحثهم على التضحية والوفاء لما أطلق عليه وطن "مصطنع" فأخذ يُصنّع لهم فكراً وأدباً وجمالاً وإغراءً للتمسك والتجذر، وحوّل فلسطين إلى إسرائيل وأخذ يقدمها على أنها أرض البطولات والتضحيات، عليهم الإيمان المطلق بذلك، وبالمقابل راح يخلق في محيطه التخلف والجهل وتعزيز الماضي بما فيه من آثام الانقسام والتطرف بإخراج أسوأ ما فيه ونشره على سواد العرب والمسلمين، ومن ثم الإشارة إليهم بأنهم غير صالحين وغير جديرين بالتطور، من باب (اعرف عدوك).
قرأت أثناء سفري إلى ألمانيا كتاباً لفت نظري وجوده على طاولة عندما كنت في منزل صديق لي في فرانكفورت بألمانيا، يضم مجموعة قصص قصيرة لكاتب إسرائيلي يُدعى "آ. ب. يهوشوع عاش بين 1936 – 2022" والذي عنونه ب (إسرائيل أرض تبعث على الأمل) وهو عبارة عن مجموعة قصص وصور، وقد تضمنت إحدى قصصه أن إسرائيل أرض للتشاؤم واليأس، يسكنها اليهود المهتمون بالمعضلات الأخلاقية في الوجود بين الفلسطينيين واليهود، وأشار فيه إلى خطر التمسك بشدة بالرؤية الصهيونية للجيل السابق الذي اغتصب فلسطين دون مراعاة واقع الفلسطينيين وحقوقهم، وهناك رواية قصيرة عنوانها (في مواجهة الغابات) "Hul Haye aror" نشرت عام 1968 ضمن مجموعته "ثلاثة أيام وطفل" هذه الرواية التي أحدثت جدلاً خطيراً وهاماً وحاداً في بعض الأحيان داخل وخارج الكيان الإسرائيلي المسقط على فلسطين وأهلها، حتى إن البعض اعتبرها نصاً انهزامياً يجب مكافحته بشدة، أرجو من قرائي البحث عنها وقراءتها من باب ـ مرة ثانية ـ إعرف عدوك، وملخصها أن الغابات أي "المستوطنات" مثيرة للقلق حينما تواجهها، ويمكن اعتبار هذه القصة بمثابة نداء شجاع من كاتب يهودي لأبناء دينه، والذي يعتبره شعبه خائناً، قائلاً: على الرغم من أنكم تحاولون إخفاء وجود الفلسطيني من خلال زراعة الغابات وتجميلها بإشادة المستوطنات إلا أنكم لن تستطيعوا تحقيق ذلك، لا فعلياً ولا رمزياً، لأن ما يتم دفنه تحت هذه الغابات لن يظهر على شكل آثار قرى ومدن دمرت فحسب، بل سينبت أيضاً كرايات لمظالم عربية فلسطينية تستحق تطبيق العدالة.
إن لم نحيا الواقع ونحلله بدقة ونعمل على صناعة المستقبل بشكل جيد وذاتي حتماً سيأبى الحضور، ولن نقدر حتى على استقباله، وكما عنونت هذا المقال، المستقبل يأبى الحضور، "إن لم يغادرنا الماضي" اعتمدت الانطلاق من الحاضر بواقعيه ومنطق تتجسد فيهما رحلة بناء وتأسيس علمي ووطني حقيقي وواقعي يأخذنا للانتصار على التخلف والتبعية؛ هذا الذي عشناه لعقد ونيف من الزمن تحت ما أُطلق عليه (الربيع العربي) الذي شكل ربيعاً مستمراً دموياً ومدمراً قاده الثنائي الصهيوني (برنار لويس وهنري ليفي) أولاً، ودعم بأفكار ايديولوجية محيطة ماضوية قديمة ثانياً، هذه التي كانت كفيلة بمدّنا بقوى داخلية وخارجية تعاكس فكرهم ساعدتنا في المسير على سبل تحقيق الانتصار تلو الانتصار على كل أشكال العدوان "المسير مستمر" ينبغي ألا نتوقف.
د. نبيل طعمة