مصر تغرق في الديون وتبيع أصولها.. هل صندوق النقد منزعج حقاً؟
مال واعمال
الأربعاء، ١٥ فبراير ٢٠٢٣
يصرّ عدد من الخبراء الاقتصاديين على تحميل مصر وحدها مسؤولية الأزمتين الاقتصادية والنقدية المستجدتين في البلاد، بينما يؤكد آخرون أنّ مؤسسات الإقراض الدولية تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية فشل الدولة اقتصادياً.
لكن، هل يُعَدّ دخول الاقتصاد المصري في خطر الانهيار والركود فشلاً لأهداف هذه المؤسسات، أمّ أنّ لديها أهدافاً أخرى غير تحقيق التنمية والازدهار في البلدان النامية؟
تحدّث مقال في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، للباحث في معهد "تحرير" المتخصص بسياسة الشرق الأوسط، تيموثي كالداس، عن الأزمتين الاقتصادية والنقدية، اللتين تعصفان بالدولة المصرية، وتعامل صندوق النقد الدولي معهما.
وذكّر كالداس بأنّ "6 أعوام مرّت منذ أن أطلق صندوق النقد الدولي أول برنامج قروض له في مصر، بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة. وفي غضون ذلك، بدأ صندوق النقد الدولي برنامج قرض ثانياً، وبات الآن على وشك البدء في برنامج ثالث".
وأكد الباحث الاقتصادي أنّ "المشلكة هي أنّ إخفاقات صندوق النقد في مصر هي قصة تحذيرية، تسلّط الضوء على أوجه القصور الصارخة في نهج الصندوق الحالي للتخطيط الاقتصادي العالمي".
وفي الواقع، أمضى النظام المصري الأعوام الماضية في استخدام وصول البلاد الواسع إلى الائتمان، من أجل تمويل مجموعة واسعة من المشاريع العملاقة ومشاريع البنية التحتية المدروسة بصورة سيّئة، والتي غالباً ما تمّ تلزيمها بصورة مباشرة للشركات التي تملكها الدولة، ولا سيما الشركات التي يملكها الجيش.
فساد وإعفاءات ضريبية وإدارة سيئة
خلال الأعوام الأخيرة، أصبحت الدولة المصرية مثقلة بكمية لا يمكن تحملها من الديون، إذ استهلكت خدمة الفائدة وحدها، بصورة منتظمة، نحو نصف إيرادات الدولة، بحسب أرقام رسمية.
ويشير مقال "فورين بوليسي" إلى أنه "في غضون ذلك، كانت الشركات، التي يملكها النظام، معفاةً بصورة عامّة من ضرائب الشركات، وضريبة القيمة المضافة، والجمارك، الأمر الذي أدى إلى حرمان الدولة من مصادر الإيرادات التي تشتدّ الحاجة إليها".
لكنّ هذه المشاكل ليست فقط مسؤولية النظام المصري، بل كذلك صندوق النقد، الذي قام بتسهيل قدرة القاهرة على اقتراض مثل هذه المبالغ الضخمة من خلال الحصول على دعم الصندوق المستمر، والثناء على إصلاحاته الاقتصادية، منذ أول برنامج قروض سيئ التصميم، والذي أعلن النقد الدولي أنّ مصر "أكملته بنجاح" في تموز/يوليو 2019، بحسب المقال.
ويرى الباحث الاقتصادي كالداس أنّه "بالنسبة إلى مؤسسة مالية، تركز بصورة أساسية على تنفيذ البرامج التي تهدف إلى إنتاج استقرار الاقتصاد الكلي"، فإن هذا يمثل "قدراً كبيراً من الهشاشة في قصة النجاح المفترضة لصندوق النقد الدولي".
وسبق أن ركّزت المجلة، في تقرير سابق، على أنّ "مصر في حاجة إلى الديمقراطية لإصلاح اقتصادها"، مؤكدةً أنّ "سوء إدارة السيسي للملف الاقتصادي، أدّى إلى إغراق البلاد في أزمتها الحالية"، وأنّ الحلّ هو عبر "الإصلاح، سياسياً واقتصادياً". لكن الأمر قد لا يعدو عن كونه إلقاءً باللوم على الحكومة لإعفاء المؤسسة الدولية من المسؤولية، وحرف النظر عن النتائج الأشد قسوة.
الحكومة تحرّر سعر الصرف في ظل اقتصاد استهلاكي
بحسب تقرير في "ميدل إيست إنستيتيوت"، فمنذ 11 كانون الثاني/يناير، أكد البنك المركزي المصري لصندوق النقد الدولي أنه يتعهد المحافظة على "سعر صرف مرن بصورة دائمة" للجنيه المصري، وذلك بهدف تحقيق أحد الشروط الرئيسة التي وقعتها القاهرة العام الماضي، في مقابل الحصول على قرض من صندوق النقد بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 46 شهراً.
وفي اليوم نفسه، الذي أعلن البنك المركزي تحرير سعر الصرف، انخفض الجنيه إلى أدنى مستوى تاريخي له على الإطلاق، وهو 32.5 جنيهاً في مقابل الدولار الأميركي في البنوك التي تملكها للدولة، ثم وصل إلى أقل من ذلك في "السوق السوداء"، لكنّ انخفاض الجنيه بصورة مطّردة في مقابل الدولار لم يبدأ الشهر الفائت، بل منذ مطلع عام 2022.
ويعزو عدد من الخبراء ذلك إلى آثار العقوبات الغربية على روسيا، وقطع الإمدادات من أوكرانيا، وهما الدولتان اللتان تعتمد عليهما مصر في استيراد عدد من المنتوجات الضرورية، وأبرزها القمح، وهو الأمر الذي أدّى إلى زيادة حادة في فاتورة الواردات.
وسمحت الدولة بالتدريج بنزول قيمة العملة، إلى جانب زيادة في أسعار الفائدة، على أمل احتواء التضخم ودفع المستثمرين الأجانب إلى العودة. لكن، حتى الآن، لم تنجح في ذلك، إذ إنّ خزينة مصر مثقلة بالديون الخارجية، واقتصادها الإنتاجي ضعيف، بينما تعتمد، بصورة أساسية، على استيراد السلع الغذائية الأساسية والمنتوجات النفطية.
أنفقت الدولة عشرات مليارات الدولارات على مشاريع عمرانية لم تكتمل
خيارات قاسية تخوّفاً من التخلف عن سداد الديون
تتأرجح مصر على شفا احتمال التخلف عن سداد ديونها الخارجية والفائدة على قروضها غير المسددة. لذلك، في ضوء النقص الحاد في احتياطيات العملات الأجنبية، التي تشتد الحاجة إليها، وجدت الحكومة المصرية أنّ سبيل إنقاذ الاقتصاد الهش، والذي تسيطر عليه الدولة، يستوجب قبول الشروط القاسية لصندوق النقد.
وبحلول نهاية آب/أغسطس 2022، انخفضت الاحتياطيات الدولية لدى مصر إلى 32.2 مليار دولار، علماً بأنها تتكون في الغالب من ودائع دول خليجية سارعت إلى مساعدة حليفها الحالي، الذي شارك مؤخراً في عدد من المشاريع الكبرى على مستوى المنطقة، كـ "ملحق" بالسياسات الخليجية، ولا سيما سياسات السعودية والإمارات وقطر، وأبرزها المشاركة في الحرب على اليمن.
لكنّ المشكلة الكبرى قد لا تكون في فتح باب سعر الصرف المرن للجنيه، والذي يعني دخول الطبقات الفقيرة، التي تمتد ضمن شرائح واسعة في البلاد، في تفاقم وضعها المعيشي سوءاً، بل في تعهد الحكومة المصرية إجراء بيع تدريجي للأصول الرئيسة غير الاستراتيجية، والمملوكة من الدولة.
وتتضمن أصولاً تمتلكها القوات المسلحة المصرية كذلك، ويجب أن تباع لمستثمرين إقليميين ودوليين، من أجل السماح بـ"قيادة القطاع الخاص لعملية النمو"، بحسب شروط البنك الدولي. وتتضمن أيضاً قبول مستوىً غير مسبوق من الإشراف من جانب الصندوق على الميزانية الوطنية والشركات المملوكة من الدولة والإنفاق الحكومي.
وفي حديث لوزيرة التخطيط هالة السعيد في مؤتمر دافوس، في كانون الثاني/يناير، قالت إنّ "الحكومة تأمل بيع أصول مملوكة من الدولة بقيمة 2-2.5 مليار دولار بحلول حزيران/يونيو".
400 مليار دولار إنفاق حكومي خلال 7 أعوام.. أين الرقابة الدولية؟
وفي النتيجة، يبقى الأمل المصري اليوم معقوداً على قروض مقسطة على أكثر من 4 أعوام قد تصل إلى 5 مليارات دولار في المجمل، بينما كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قال، في مؤتمر اقتصادي في شباط/فبراير من العام الفائت، إنّ "تكلفة مشاريع البنية التحيتة التي تمّ تنفيذها خلال الأعوام الـ7 الأخيرة بلغت 400 مليار دولار".
وبحسب موقع "أفريكا ريبروت"، استفاد الجيش المصري ومقاولون أجانب ومحليون، من برنامج كبير دعمته الحكومة لبناء مدن وبنية تحتية جديدة، بينها عاصمة إدارية جديدة في مصر، تقع على بعد 45 كيلومتراً تقريباً شرقي القاهرة.
وخلال الأعوام الـ 7 الماضية، تمّ ضخ أكثر من 20 مليار دولار من الاستثمارات في منطقة تمتد على 16800 هكتار، لكنّ هذه العاصمة لم تكتمل حتى اليوم، ومن غير المرجّح أن تنتهي الأعمال فيها بالشكل المطلوب، في حال دخلت مصر في أزمة مرتقبة، اقتصادياً ونقدياً.
وهنا يأتي سؤال مهم، لماذا لم يتدخل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي ومؤسساتهما الرقابية خلال هذه الأعوام، وسط هذا الإنفاق الهائل للحكومة المصرية على مشاريع عمرانية وبنية تحتية غير مكتملة، وهي في معظمها غير منتجة في المدى القريب، ولا تحمّل اقتصاد الدولة المتهاوي إلا مزيداً من الأعباء والديون؟
هل فشل صندوق النقد الدولي حقاً؟
هنا تأتي مقاربة متعددة للقضية. ففي الوقت الذي يؤكد فيه عدد من المحللين أنّ إغراق "البلاد النامية" بالديون يُعَدّ فشلاً لسياسات صندوق النقد، إلا أن آخرين يرون أنّ للأمر أبعاداً أخرى يجب لحظها.
إنّ المؤسستين الدوليتين (صندوق النقد والبنك الدوليين) اللتين يفترض أن يكون هدفهما الأصلي "مساعدة الدول الفقيرة على خدمة الشؤون السياسية والمالية، وتحقيق التنمية المستدامة وعلاج التفاوت المعيشي بين شعوب الأرض"، تقومان بصورة أساسية بخدمة مصالح واشنطن وبنوك "وول ستريت"، وفق خبراء ومحللين.
وبعد تقديم المشورة والقروض إلى أفقر حكومات دول العالم على مدى 7 عقود، يبدو أنّ حالات قليلة جداً يمكن أن تقر بأنّ جهود صندوق النقد والبنك الدوليين، أدّت إلى تحسين مستويات المعيشة والازدهار الاقتصادي المستدام.
أهداف القروض سياسية أم اقتصادية؟
لكن في الأعمّ الأغلب، شهد العالم الثالث تفككاً اجتماعياً، وركوداً اقتصادياً وأزمات ديون كبرى. وفي معظم المناطق خارج نطاق دول الشمال، تراجع الإنتاج الزراعي وتراجعت المداخيل، واستمرّ الفقر في التنامي في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، على الرغم من إنفاق المؤسستين مئات مليارات الدولارات على "القروض والمشاريع التنموية".
وفي الواقع، فإنّ هذه القروض بالعملة الصعبة أضرّت بعملائها في العالم النامي وقلصت الفرص الاقتصادية، وشجّعت، في كثير من الأحيان، على الإسراف المالي والفساد السياسي. وفوق ذلك، شكّلت رافعةً لعدد من الحكومات المتعثّرة التي ترضى عنها واشنطن، بينما تركت مواطني الدول المقترضة مثقلين بديون العملة الصعبة، ومحرومين بالتالي من فرص اقتصادية مجدية، كما هي الحال في مصر، وكما حدث في المكسيك والأرجنتين والبرازيل ولبنان وغيرها.
وعادةً ما يقدم صندوق النقد والبنك الدوليان قروضاً بالعملة الصعبة. وبدلاً من أن تُستخدم في مشاريع تنموية وحيوية للاقتصاد المحلي، تستخدم في الواقع لتمويل واردات السلع الاستهلاكية واستمرار "العادات السيئة"، أو تنفق من جانب المسؤولين الحكوميين الفاسدين، الأمر الذي يجعل هذه القروض تؤدي دوراً سياسياً في المقام الأول، وليس دوراً اقتصادياً، عبر مساندة الحكومات وانقاذها من النقمات الشعبية.
وهنا، لا يصبح المشهد المصري غريباً عن تاريخ طويل من إخضاع المؤسسات الدولية الحكومات النامية لشروطها الاقتصادية، عبر إغراقها بالديون عقب قروض مغرية غير منتجة، مستغلةً الفساد الإداري وسوء التنظيم والمحسوبيات. لكن، في بلد مثل مصر، يقارب عدد سكانه 100 مليون نسمة، ويؤدي دوراً سياسياً مهماً في الشرق الأوسط، يحتاج الأمر إلى تروٍّ لمعرفة كيف ستتعامل المؤسسات، التي تتحكم فيها الدول الكبرى مع هذه الأزمة المستجدة وتبعاتها.