مـن دمشق وإليها
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٨ أبريل ٢٠٢٣
مشهد مهم يستحق التبصر فيه، والأهم ما سينتج عنه، وطبيعة دمشق المؤسسة على التحديث في البنى الفوقية والتحتية، والأطر العلمية تشير إلى أنها تمتلك المبادرة التي تستند إلى الحقائق العلمية والمعرفية الدامغة، وطبعاً لا تنسى مقابلتها للجميل بالجميل والوفاء بالوفاء، وهي تغفر وتسامح مستمدة من إيمانها بالروحي الدقيق، الذي يمتلك المنطق والحكمة، وتتجاوز الخطايا التي تؤرشفها في ذاكرتها، تتعلم منها، وتستخدمها في حينها.
حدث ما حدث من سلطة الطبيعة وتدافع المنطق الإنساني، الذي أظهر للآخرين حضور سورية الداخلي، والكل استثمر في هذا الحدث، والكل في داخله لغة الحقيقة والاعتراف بأنه أخطأ بحق دمشق، وإذا استذكرنا حديث حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري وعن مئات المليارات التي دفعت لتدمير سورية بإجماع المحيط عبر عقد من الزمن، وبأوامر من الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد قراءة متأملة في الذي تحدث عنه ترامب عن العرب والمسلمين، وهو الرئيس الذي كتبت عنه بأنه صريح وواضح في زمنه الرئاسي، حيث قال حينها: ادفع لتبقى، ويبدو أن العرب قرؤوا ما سأعيد نشره من حديثه، لأن دمشق كانت على وعي قديم بما تحيكه السياسات الأمريكية المتعاقبة، وأرجو من كل عربي أن يتمعن في كل كلمة أقتبسها مما قاله ترامب:
"أيها السادة: اليوم قررت أن أخبركم بكل ما يجري، وإلى أين يتجه العالم في ظل كل المتغيرات التي حصلت طوال (400) عام، تذكرون عام 1717 الذي كان ولادة العالم الجديد.. وتذكرون أن أول دولار طبع عام 1778 ولكي يحكم هذا الدولار.
كان العالم بحاجة إلى ثورة، فكانت الثورة الفرنسية عام 1789، تلك الثورة التي غيرت كل شيء، وقلبت كل شيء، ومع انتصارها انتهى العالم الذي كان محكوماً طوال 5000 سنة بالأديان والمثيولوجيات، وبدأ نظام عالمي جديد يحكمه المال والإعلام.. عالم لا مكان فيه لله ولا للقيم الإنسانية.
لا تستغربوا أننا عينة من هذا النظام العالمي الجديد، هذا النظام يعرف طبيعة عملي الحالي من القيم الإنسانية والأخلاقية، فأنا لا يهمني أن يموت المصارع، ما يهمني هو أن يكسب المصارع الذي راهنت عليه، ومع ذلك أوصلني النظام العالمي إلى الرئاسة، أنا الذي أدير مؤسسات للقمار، وأنا اليوم رئيس أقوى دولة، إذاً لم تعد المقاييس الأخلاقية هي التي تحكم، الذي يحكم اليوم العالم والكيانات البشرية هي المصالح.
لقد عمل نظامنا العالمي بصبر ومن دون كلل، حتى وصلنا إلى مكان انتهت معه سلطة الكنيسة، وفصل الدين عن السياسة، وجاءت العلمانية لمواجهة المسيحية.
وأيضاً عندما سقطت ما سميت الخلافة الإسلامية العثمانية وحتى الديانة اليهودية، أسقطناها عندما ورطناها معنا بالنظام العالمي، فالعالم اليوم بأغلبيته يكره السامية، لذلك نحن قمنا بفرض قانون يحمي السامية، ولولا هذا القانون لقتل اليهود في كل بقاع الأرض، لذلك عليكم أن تفهموا أن النظام العالمي الجديد لا يوجد فيه مكان للأديان، وأنتم تشاهدون اليوم كل هذه الفوضى التي تعم العالم من أقصاه إلى أقصاه، إنها ولادة جديدة، ولادة ستكلف الكثير من الدماء، وعليكم أن تتوقعوا مقتل عشرات الملايين حول العالم، ونحن كنظام عالمي غير آسفين على هذا الأمر، فنحن اليوم لم نعد نملك المشاعر والأحاسيس.
لقد تحول عملنا الى ما يشبه الآلة.. مثلاً سنقتل الكثير من العرب والمسلمين، ونأخذ أموالهم ونحتل أراضيهم، ونصادر ثرواتهم، وقد يأتي من يقول لك: إن هذا يتعارض مع النظام والقوانين، ونحن سنقول لمن يقول لنا هذا الأمر، أنه وبكل بساطة إن ما نفعله بالعرب والمسلمين هو أقل بكثير مما يفعله العرب والمسلمون بأنفسهم، إذاً نحن من حقنا ألا نأمن لهم، لأنهم خونة وأغبياء.. خونة وكاذبون.
هناك إشاعة كبيرة في العالم العربي بأن أمريكا تدفع مليارات الدولارات لإسرائيل وهذه كذبة، فإن الذي يدفع لإسرائيل مليارات الدولارات هم العرب.. فالعرب يعطون المال لأمريكا التي بدورها تعطيه لإسرائيل، وأيضاً العرب أغبياء.. أغبياء لأنهم يتقاتلون طائفياً، مع العلم أن لغتهم واحدة والأغلبية من الدين نفسه، إذاً المنطق يبرر عدم بقائهم أو وجودهم، لذلك تسمعونني أقول دائماً، بأن عليهم أن يدفعوا.
أما صراعنا مع إيران فليس لأن إيران هي التي اعتدت علينا، بل نحن الذين نحاول أن ندمرها ونقلب نظامها، وهذا الأمر فعلناه مع الكثير من الدول والأنظمة، فأنت لكي تبقى الأقوى في العالم فعليك أن تضعف الجميع.
أنا أعترف أنه في ما مضى كنا نقلب الأنظمة وندمر الدول، ونقتل الشعوب تحت مسميات الديمقراطية، لأن همنا كان أن نثبت للجميع أننا شرطة العالم، أما اليوم فلم يعد هناك داعٍ للاختباء خلف إصبعنا، فأنا أقول أمامكم لقد تحولت أمريكا من شرطة إلى شركة، والشركات تبيع وتشتري، وهي مع من يدفع أكثر، والشركات كي تبني عليها دائماً أن تهدم، ولا يوجد مكان مهيأ للهدم أكثر من الوطن العربي.
مثلاً إن ما صرفته السعودية في حربها على اليمن تقريباً يعادل ما صرفته أمريكا بحرب عاصفة الصحراء، فماذا حققت السعودية؟ في الختام قالت: إنها بحاجة لحمايتنا، في الوقت الذي تدفع فيه مليون دولار ثمن صاروخ لتدمر موقعاً أو سيارة لا يتجاوز ثمنها بضعة آلاف الدولارات.
لا أعلم أين النخب، ولا أريد أن أعرف، فأنا أعرف بأن مصانع السلاح تعمل، لا يعنيني من يموت، ومن يقتل في تلك المنطقة، وهذا الأمر ينطبق على الجميع، فأنا سأستمر بمشروع السيطرة على النفط العربي، لأن هذه السيطرة تساعدنا في استكمال السيطرة على أوروبا والصين واليابان.
ثم إنه لا يوجد شعوب حرة في المنطقة، فلو وجدت لما وجدنا نحن، لذلك لن نسمح بإيقاظ هذه الشعوب، كما لن نسمح لأي جهة كانت الوقوف في وجه سيطرتنا على المنطقة، لذلك وضعنا إيران أمام خيارين.. إما الحرب وإما الاستسلام، وفرضنا عليها أقصى العقوبات التي ستوصلنا إلى الحرب التي لن يربح فيها أحد في المنطقة، بل سيكون الرابح الوحيد هو النظام العالمي الجديد، ولكي يربح هذا النظام، سنستخدم كل ما توصلنا إليه وعلى كل الصعد العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية".
هذا الحديث وغيره كوّن أسباباً لإنهاء حكمه وعدم التجديد له وإثارة الفضائح حوله، فالسياسة تستند إلى الخفاء، ودائماً تريك عكس ما تعمل عليه.
وأجزم أن الحرب الأوكرانية الروسية المبرمجة أمريكياً وسَّعت رؤية ما يجري من إرادة الهيمنة الأمريكية على العالم، ما أظهر انتفاضة روسيا والصين وكثير من الدول في العالم، بما فيها المنظومة العربية التي استفاقت من غيبوبتها، لتعلن الحياد بين الأطراف كلها، وبدأت تنادي بضرورة تعدد الأقطاب وتنويع المصادر، لأنها إن اجتمعت وتضامنت في الحد الأدنى، أوجدت لها حضوراً بين الساعين لحضور الشارع العربي برمته مع سورية.
القيادات العربية وصلت إلى قناعات ضرورة الحضور العربي كشخصية، لأن الإيراني أمة، والتركي أمة، ونحن أمة، لكننا مشرذمون، والشعار الوحيد الباقي في الوطن العربي هو شعار الجمهورية العربية السورية: "أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة"، وهو طموح كل سوري وكل عربي، وطموح القيادة السورية المتجسدة بشخص الرئيس بشار الأسد.
منطقي أن تضع سورية ما مضى في أدراجها، وتتجه إلى الأمام مترفعة عن كل شيء ومبادرة للقاء ومعززة للغة الالتقاء بشكل ثناء، وهذا ما شهدناه من الرئيس الأسد في رحلاته إلى الإمارات وعمان وتفعيل الزيارات بشكل كامل مع باقي الدول العربية التي يمهد لها وزير الخارجية السوري إلى مصر والسعودية والجزائر وتونس، وسينعقد مؤتمر القمة في الرياض بحضور سوري شخصي أو فكري، والذين يعارضون حضوره لم يجاوزوا أبعاد حضورهم، لأن تجاوز هذه الأبعاد يعني قراءة الواقع والمستقبل وعدم قراءته العيش في الماضي والأوهام.
هل يستدرك العرب ما فاتهم من خلال قراءتهم للمشهد العالمي بكل ما فيه، ويجمعون على ضرورة إحداث النهوض العربي وتفعيل دور الجامعة العربية، لتكون جامعة عربية خالصة، يختلفون من أجل الأفضل من دون تبعية، ويجتمعون كمتضامنين وباحثين عن إثبات هويتهم وشخصيتهم المستقلة والرائدة بكل ما تعنيه من كلمة، فعودة سورية إليهم تعني عودة العرب إلى وجودهم، وعودة العرب إلى وجودهم تعني عودة سورية إلى وجودها، ففي دمشق تأسست الدولة العربية، ومنها انطلق حضور الأمة وإخراجها من الدولة العربية يعني تشرذم الأمة، وعودتها تعني عودة الأمة، وفي عودتها قضاء على لغة التشرذم التي تحدث عنها ترامب بصراحة، فبها يكبرون، وبهم تكبر، أرجو أن نستفيد جميعاً من قراءة المشهد.
وكل عام وأنتم بخير
د. نبيل طعمة