هل القضاء عليها مهمة مستحيلة.. التشابكات المالية بؤرة خصبة للفساد والإثراء غير المشروع؟!

هل القضاء عليها مهمة مستحيلة.. التشابكات المالية بؤرة خصبة للفساد والإثراء غير المشروع؟!

مال واعمال

الاثنين، ١٨ ديسمبر ٢٠٢٣

أخفقت جميع الحكومات المتعاقبة على مدى العقود الثلاثة الماضية بحل التشتبكات المالية بين الجهات العامة، وتخفي هذه التشابكات الكثير من عقود الفساد، وإثراء من يتحكم فيها بأساليب غير مشروعة.
ومع أنه ما من حكومة، وما من وزير مالية، إضافة إلى الجهاز المركزي للرقابة المالية، خلال العشرين عاما الماضية على الأقل، إلا وحاول إغلاق ملف التشابكات المالية، لكن الجميع اكتشف أنه أمام مهمة مستحيلة تحتاج إلى فريق متخصص ومتفرغ لعدة سنوات مع صلاحيات واسعة.
 
مصالح ومنافع 
وفي كل مرة تتم فيها معالجة بعض ملفات التشابكات المالية بين جهات عامة محددة بصكوك تشريعية، تتفاجأ الحكومة بعودة هذه التشابكات من جديد، ما يؤكد أن هناك مصالح ومنافع مادية مغرية جداً لاستمرار هذه التشابكات، بل والتقصد بتعقيدها كي تبقى بؤرة خصبة للفساد المستتر، والإثراء السريع غير المشروع.
والسؤال المطروح منذ أكثر من ثلاثة عقود: هل تعجز وزارة المالية بكوادرها ومؤسساتها وخبرائها عن إيجاد حل جذري للتشابكات المالية بين الجهات العامة؟
أما السؤال الأهم: كيف يمكن لوزارة المالية إنجاز مشاريع قوانين الموازنات العامة للدولة بوجود عدد كبير من الشركات العامة لم تنجز ميزانياتها السنوية أو أن ميزانياتها غير دقيقة ولا مكتملة بسبب مشكلة التشابكات المالية مع الغير؟.
 
اعتراف بالعجز
وبما أن مجلس الوزراء وافق في جلسته بتاريخ 20/11/2023 على مشروع قانون لحل التشابكات المالية التي تعود لأكثر من عشرين عاماً، فهذا اعتراف بإخفاق الحكومات السابقة أو بعجزها عن الوصول إلى حل لمشكلة تؤثر سلباً على هيكلية الموازنة العامة للدولة من جهة، وعلى معرفة الأوضاع المالية الدقيقة للقطاع العام الاقتصادي والخدمي من جهة أخرى.
ويُفترض أن وزارة المالية التي أعدت مشروع قانون جديد لحل التشابكات المالية قررت أخيراً إغلاق هذا الملف، ما يعني أنها ستنفذ آليات فعالة هذه المرة تختلف عن الآليات السابقة اللامجدية، بدليل استمرار التشابكات بل وزيادتها عاماً بعد عام!
والسؤال: لماذا تلجأ أية شركة عامة بيع منتجاتها أو خدماتها لشركة أخرى ما دامت تعرف مسبقاً أنها لن تتمكن من تحصيل ديونها لا في الأمد القصير ولا البعيد؟
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: لماذا لم تلزم الحكومات المتعاقبة شركات ومؤسسات القطاع العامل بالتعامل النقدي الفوري بدلا من الدفع الآجل؟.
 
ماسبب العلة؟
حسب وزارة المالية، فإن سياسات الدعم الاجتماعي والتي تشمل المحروقات والكهرباء والمياه..إلخ أدت إلى (سلسلة تاريخية من الديون والتشابكات المالية بين المؤسسات الاقتصادية القائمة تعود لأكثر من 20 عاما بسبب تحديد أسعار إدارية لمنتجاتها مما نتج عنه نقص كبير في سيولتها المالية)، ولكن لم تكشف وزارة المالية أسباب العلة لتشابكات المالية بين جهات عامة لاعلاقة لها بسياسات الدعم.
وإذا كانت الكثير من المؤسسات التي ذكرتها وزارة المالية تعجز عن الاستمرار بنشاطها وعدم قدرتها على تحمل أعباء الدعم فلماذا لم تأمر الحكومات المتعاقبة وزارة المالية بتسديد العجوزات الناجمة عن سياسات الدعم الاجتماعي مباشرة إلى هذه المؤسسات منعا لأية تشابكات مالية بينها تغري أصحاب النفوس الضعيفة بالفساد والإفساد!.
 
لا علاقة لسعر الصرف
وإذا كانت جهات حكومية تبرر استمرار التشابكات المالية بسبب التراجع المستمر بسعر صرف الليرة، ما أدى إلى أزمة سيولة قي الجهات العامة الملزمة بتنفيذ سياسة الدعم الاجتماعي، فإن هذا السبب على الرغم من أهميته ليس هو المسؤول الفعلي عن مشكلة التشابكات، بدليل أن هذه المشكلة مطروحة وبقوة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكانت بارزة جداً بين شركات القطاع العام الإنشائي، والكثير من شركات القطاع الصناعي.. إلخ، وكان حينها سعر الصرف مستقراً وثابتاً وقوياً.
نعم، لا تستطيع الجهات العامة تحمل الأعباء المالية الناجمة عن سعر الصرف، أو الاستمرار بتنفيذ المشاريع الاستثمارية والتي تصل قيمتها إلى 900 مليار، ولكن ما علاقة سعر الصرف بالتشابكات؟
يفترض بوزير المالية بعد كل تعديل لسعر الصرف أن يصدر قراراً موازياً بتعديل المبالغ (أي زيادتها) المخصصة للجهات العامة في الموازنة العامة كي تستمر بتنفيذ سياسات الدعم والمشاريع الاستثمارية، وليس الانتظار لأكثر من 20 عاماً كي تنجز مشروع قانون يغطي الأعباء المالية الناجمة عن فروقات سعر الصرف.
ونجزم أن وزارة المالية لو قامت بتعديل الاعتمادات المخصصة للجهات العامة فور تعديل أسعار الصرف لما انتهت مشكلة التشابكات المالية، لأن هذه المشكلة قديمة جداً ويبدو أن هناك قوى نافذة لاتريد إغلاق ملف التشابكات.
 
ما علاقة التأمينات؟
ولا يمكن الاستهانة بالتشابكات المالية، فهي ليست متشعبة، بل ومعقدة أيضاً، بل وحجمها كبير جداً، ما يدفعنا للاستنتاج أن الحكومات المتعاقبة لم تكن جادة بحلها منذ مطلع تسعينات القرن المضي عندما كان سعر الصرف مستقراً والوضع المالي للدولة ممتاز جداً!
وعندما يصل حجم ديون مؤسسة التجارة الخارجية إلى 485 ملياراً، فإن السؤال: من المسؤول عن تراكم هذه الديون سوى الحكومات المتعاقبة، بل من المستفيد من تشابكاتها مع الجهات الحكومية الأخرى؟
والملفت جداً أن تقع مؤسسة غير عامة (رغم اعتبارها عامة) كالتأمينات الاجتماعية في فخ التشابكات المالية، فأموال المؤسسة تأتي من اشتراكات أرباب العمل من القطاعين العام والخاص، ومع ذلك فإن ديونها تتجاوز 137.5 مليار ليرة معظمها مستحق على الجهات العامة، وبدلاً من إدراج حل هذه الديون في صك قانوني، كان يُمكن لوزارة المالية اقتطاع ديون المؤسسة من الاعتمادات المخصصة للوزارات وتسديدها مباشرة للتأمينات الاجتماعية التي لاعلاقة لها أساسا بالتشابكات.
 
ليس الأول من نوعه
ومن المهم الإشارة إلى أن مشروع قانون التشابكات المالية الذي سيحال قريباً إلى مجلس الشعب ليس الأول من نوعه، فقد سبق وأقر المجلس في عام 2009 مشروع قانون لحل تشابكات بقيمة 507 مليارات، أي لتشابكات لاعلاقة لها بسعر الصرف الثابت والمستقر خلال السنوات التي تفاقمت خلالها التشابكات.
وأقر مجلس الشعب في جلسته التي عقدها يوم 31/12/2011 مشروع قانون آخر متعلق بحل التشابكات المالية بين جهات القطاع العام لغاية 31/12/2011، أيّ فض المديونيات المتبادلة بين جهات القطاع العام.
وتضمن القانون إضافة اعتمادات بمبلغ 864 مليارا و359 مليون ليرة سورية إلى اعتمادات الموازنة العامة للدولة لعام 2011 وإضافة مبلغ معادل إلى تقديرات الإيرادات حسابياً دون أن يترتب على ذلك أية تأدية نقدية وذلك على غرار القوانين السابقة لحل التشابكات المالية، وهذا يؤكد مجدداً أن الحل الجذري للتشابكات يبدأ من الموازنة العامة للدولة.
وإذا كانت هذه الصكوك التشريعية هدفها تسوية أوضاع بعض الشركات ومؤسسات القطاع العام التي حققت خسائر وعجوزات نتيجة الدعم الاجتماعي الذي تقدمه الدولة للمواطنين، فلماذا لا تلحظ وزارة المالية الاعتمادات الكافية لها مسبقا في الموازنة؟
وأقر مجلس الشعب في آذار 2017 مشروعا مماثلاً أيضاً لحل تشابكات مالية بحدود المليار ليرة، وهذا يعني أن وزارة المالية تقوم بإنجاز صكوك تشريعية لحل تشابكات مالية محددة، وليست بصدد إنجاز صك تشريعي جامع يمنع بروز تشابكات مالية جديدة مستعصية ريثما توجد الحلول للتشابكات المالية المزمنة.
 
الحل يبدأ من الموازنة
ورأى خبراء، منذ العام 2017، أن حل التشابكات المالية ليس معقداً، ويمكن أن يتم “من خلال تطوير آليات إعداد الموازنة وزيادة الاعتمادات للمؤسسات والشركات المعنية بتقديم المواد المدعومة، وأنه في حال عدم إيجاد الحلول الجذرية ومعالجة مسببات حدوث التشابكات المالية سيتكرر المشهد في السنوات القادمة وسنكون أمام حاجة من جديد لإحداث قوانين خاصة لحل تشابكات الجهات العامة المالية”، وهذا ما يحصل الآن بعد أكثر من خمس سنوات!
وبما أن التشابكات المالية تتركز في مؤسسات وشركات الأسمدة والكهرباء والمحروقات والمياه، فإن وزارة المالية توحي بأن الدعم الاجتماعي هو المسبب للتشابكات المالية، في حين يؤكد الخبراء أنه لا علاقة للتشابكات المالية بالدعم الحكومي، لأن أرقام الدعم يجب أن تظهر بشكل أوضح في قانون الموازنة، أي في موازنات المؤسسات والجهات العامة ذات العلاقة.
ولو كانت ميزانيات حسابات الوزارات وإدارات الدولة دقيقة وسليمة، وتتم وفق المعايير المحاسبية، لما ظهرت مشكلة التشابكات المالية، ولما لجأت الحكومة كل بضع سنوات لحل بعضها بصكوك تشريعية لا تمنع ظهورها مجددا بعد عدة سنوات.
 
علي عبود